الأربعاء، 20 أكتوبر 2010
على جبل التجلى
علي جبل التجلي ، وقف ثلاثة يضيئون بنور مجيد وكانوا ثلاثتهم ممن أتقنوا الصوم … إذ صام كل منهم أربعين يوماً وأربعين ليلة إنهم : السيد المسيح له المجد ( متي 4: 2) ، وموسي ( خر 40 : 28 )، وإيليا ( 1 مل 19: 8) ،فهل يختفي وراء هذا المنظر البهي معني هام : وهو انه بقهر الجسد في الصوم ، تتجلي الروح ، ويتجلي الجسد ؟ هل اختار السيد المسيح معه في التجلي إثنين من الصوامين ، ليرينا أن الطبيعة التي ستتجلي في الأبدية ، هي التي قهرت الجسد بالصوم ؟ تري ماذا قيل عن الصوم أيضاً ؟ لقد قيل :
الصوم هو أقدم وصية عرفتها البشرية ، فقد كانت الوصية التي أعطاها الله لأبينا آدم ، هي أن يمتنع عن الأكل من صنف معين بالذات ، من شجرة معينة ( تك 2: 16، 17) ، بينما يمكن أن يأكل من باقي الأصناف .
وبهذا وضع الله حدوداً للجسد لا يتعداها .
فهو ليس مطلق الحرية ، يأخذ من كل ما يراه ، ومن كل ما يهواه … بل هناك ما يجب أن يمتنع عنه ، أي أن يضبط إرادته من جهته . وهكذا كان علي الإنسان منذ البدء أن يضبط جسده . فقد تكون الشجرة " جيدة للكل ، وبهجة للعيون ، وشهية للنظر "( تك 3: 60) . ومع ذلك يجب الإمتناع عنها . وبالإمتناع عن الأكل ، يرتفع الإنسان فوق مستوي والجسد ، ويرتفع أيضاً فوق مستوي المادة ، وهذه هي حكمة الصوم.
ولو نجح الإنسان الأول في هذا الاختبار ، وانتصر علي رغبة جسده في الكل ، وانتصر علي حواس جسده التي رات الشجرة فإذا هي شهية للنظر … لو نجح في تلك التجربة ، لكان ذلك برهاناً علي أن روحه قد غلبت شهوات جسده ، وحينئذ كان يستحق أن يأكل من شجرة الحياة …
ولكنه انهزم أمام الجسد ، فأخذ الجسد سلطانا عليه .
وظل الإنسان يقع في خطايا عديدة من خطايا الجسد ، واحدة تلو الأخري ، حتى أصبحت دينونة له أن يسلك حسب الجسد وليس حسب الروح ( رو 8: 1) .
وجاء السيد المسيح ، ليرد الإنسان إلي رتبته الولي .
ولما كان الإنسان الأول قد سقط في خطية الكل من ثمرة محرمة خاضعاً لجسده ، لذلك بدا المسيح تجاربه بالإنتصار في هذه النقطة بالذات ، بالانتصار علي الكل عموماً حتي المحلل منه . بدأ المسيح خدمته بالصوم ، ورفض إغراء الشيطان بالكل لحياة الجسد ، أظهر له السيد المسيح ان الإنسان ليس مجرد جسد ، ، إنما فيه عنصر آخر هو الروح . وطعام الروح هو كل كلمة تخرج من فم الله ، فقال له :
" ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ، بل بكل كلمة تخرج من فم الله " ( متي 4:4) .
ولم تكن هذه قاعدة روحية جديدة ، أتي بها العهد الجديد ، إنما كانت وصية قديمة أعطيت للإنسان في اول شريعة مكتوبة ( تث 8: 3) . وقد قيل عن حنه النبية إنها كانت " لاتفارق الهيكل عابده بأصوام وطلبات "( لو 2: 37)
وصام الرسل
في العهد الجديد ، كما صام المسيح ، صار رسله أيضاً ..
وقد قال السيد المسيح في ذلك " حينما يرفع عنهم العريس حينئذ يصومون " ( متي 9: 15) … وقد صاموا فعلاً . وهكذا كان صوم الرسل أقدم وأول صوم صامته الكنيسة المسيحية . وقيل عن بطرس الرسول إنه كان صائماً حتى جاع كثيراً واشتهي ان يأكل ( أع 10: 10) فظهرت له الرؤيا الخاصة بقبول الأمم . وهكذا كان إعلان قبول الأمم في أثناء الصوم . وليس الرسل كان يخدم الرب " في اتعاب في أسهار في أصوام "( 2 كو 6: 5) ، بل قيل عنه " في أصوام مراراً كثيرة " ( 2 كو 11: 27 ) . وقيل إنه صام ومعه برنابا ( اع 14: 23) .
وفي أثناء صوم الرسل ظن كلمهم الروح القدس …
إذ يقول الكتاب " وفيما هم يخدمون الرب ويصومون ، قال الروح القدس : إفرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه . فصاموا حينئذ وصلوا ووضعوا عليهما اليادي "( أع 13: 2، 3) . وما اجمل ما قاله الرب للرسل عن الصوم وعلاقته بإخراج الشياطين :
" هذا الجنس لا يخرج بشئ ، إلا بالصلاة و الصوم " ( مت 17: 21) . إلي هذه الدرجة بلغت قوة الصوم في إرعاب الشياطين . وبم يكن الصوم قاصراً علي الأفراد ، إنما كان الشعب كله يصوم …
صوم الشعب كلةويدخل في العبادة الجماعية ( وهو غير الصوام الخاصة ).
فيه تجتمع كل قلوب الشعب معاً ، في تذلل امام الله . وكما اعتاد الناس أن يصلوا معاً واحدة ، وبنفس واحدة ، في صلاة جماعية يقدمونها لله ( أع 4: 24) ، وهذه غير الصلوات الخاصة التي في المخدع المغلق ، كذلك في الصوم :
هناك أصوام ، لها أمثلة كثيرة في الكتاب المقدس :
يشترك فيها جميع المؤمنين معاً ، بروح واحدة ، يقدمون صوماً واحداً لله . إنه صوم للكنيسة كلها … ولعل أبرز مثال له الصوم الذي صامه كل الشعب لما وقع في ضيقة أيام الملكة أستير حتي يصنع الرب رحمة ( إس 4: 3، 16) . وصام الجميع بالمسوح و الرماد والبكاء ، وسمع الرب لهم وأنقذهم . وكما صام الشعب كله بنداء عزرا الكاهن علي نهر أهوا متذللين أمام الرب ( عز 8: 21، 23) ، كذلك إجتمعوا كلهم بالصوم مع نحميا وعليهم
مسوح وتراب ( نج 9: 1) . وكذلك صام الشعب أيام يهوشافاط ( 2 أي 20: 3) . ويحدثنا سفر أرمياء النبي عن صوم الشعب في أيام يهوياقيم بن يوشيا ( أر 36: 9) . وصوم آخر جماعي في أيام يوئيل النبي ( يوئيل 3: 5) . ومن الأصوام الجماعية أيضاً :" صوم الشهر الرابع ، وصوم الخامس ،وصوم الخامس ، وصوم السابع ، وصوم العاشر "( زك 8: 19) .
والصوم معروف في كل ديانة .
وقد صام الأمم …
ولعل أبرز مثال له صيام أهل نينوي ( يون 3) . وكيف أن الله قبل صومهم ، وغفرلهم خطاياهم . وكذلك كرنيليوس قائد المائة ( أع 10: 30)) . وكيف قبل الله صومه ، وارسل إليه بطرس الرسول الذي وعظه وعمده . ويحدثنا العهد القديم عن صوم داريوس الملك أثناء تجربة دانيال النبي، وكيف " بات صائماً ، ولم يؤت قدامه بسراريه " ( دا 6: 18) .
الصوم معروف في كل ديانة ، حتى الديانات الوثنية و البدائية . مما هلي أنه معروف منذ القدم قبل أن يفترق الناس .
والذي يقرأ عن البوذية و البراهمية و الكنفوشيوسية ، وعن اليوجا أيضاً ،يري أمثلة قوية عن الصوم ، وعن قهر الجسد لكي تأخذ الروح مجالها . والصوم عندهم تدريب للجسد وللروح أيضاً . وفي حياة المهاتما غاندي الزعيم الروحي الشهير للهند ، نري الصوم من أبرز الممارسات الواضحة في حياته . وكثيراً ما كان يواجه به المشاكل . وقد صام مرة حتي قال الأطباء عن دمه بدأ يتحلل …
وبالصوم اكتشف اليوجا بعض طاقات الروح …
هذه الطاقة الروحية التي كانت محتجبة وراء الاهتمام بالجسد وقد عاقها الجسد عن الظهور ولم يكتشفوها إلا بالصوم … ويري الهندوس أن غاية ما يصلون إليه هو حاله ( النرفانا ) أي انطلاق الروح من الجسد للإتحاد بالله ، لا يمكن أن يدركوها إلا بالنسك الشديد والزهد و الصوم … وهكذا نجد أنه حتى الروح البعيده عن عمل الروح القدس ، التي هي مجرد روح تنطلق من رغبات الجسد ومن سيطرته بالتداريب ، تكون روحاً قوية ، تصل إلي بعض طاقاتها الطبيعية ، فكم بالحري التي إلي جوار هذه القوة الطبيعية تكون مشتركة مع روح الله …؟
الصوم هبة
وإن عرفنا فوائد الصوم ، نجد أنه هبة من الله .
نعم ، ليس الصوم مجرد وصية من الله إنما هو هبة إلهية . إنه هبة ونعمة وبركة … إن الله الذي خلقنا من جسد ومن روح ، إذ يعرف أننا محتاجون إلي الصوم ، وان الصوم يلزم حياتنا الروحية لأجل منفعتها ولأجل نمونا الروحي وأبدتنا لذلك منحنا ان نعرف الصوم ونمارسه . وأوصانا به كأب حنون وكمعلم حكيم .
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق