مرحباً بكم في مدونة نيافة الحبر الجليل الأنبا مرقس أسقف شبرا الخيمة وتوابعها وهى تشمل عظاته ومحاضراته التي يلقيها على طلبة الكلية الإكليريكية وصوره وأعماله في الإيبارشية وموضوعات أخرى

الجمعة، 22 يناير 2010

ربي يسوع



إنَّ حياتك على الأرض هى رحلة مع الآلام، بدايتها كانت فى بيت لحم حيث آلام الفقر والغربة، ونهايتها على الجلجثة حيث آلام الصلب والفداء، فأين سطور الفرح في كتاب حياتك؟ لقد أبادها الألم! ألم يحكْ الإنسان من ظلمة الليل رداءً كثيفاً مُبطّناً بأنفاس الموت، لكي يستر به أضلع يسوع يوم ميلاده، وها السماء يوم صلبه تنسج ثوباً من أشعة الشمس المُظلمة، وتُلقيه على جسد خالقها!
لقد وُلِدت شُجيرة صغيرة لم تُقلّمْ أغصانها بعد، فما أن أتت الثمرة حتى سقطت ميتة فى أرض الأحياء، ألست أنت بكر مريم الذي طوّقته بذراعيها، كما تُطوّق الصدفة درّتها الثمينة، فلماذا لا تساوى الجوهرة فى نظر صالبيك سوى ثلاثين من الفضة؟!

وفى شبابك لم يأسرك المال أو تستعبدك السلطة، بل قلت للشاب الغنيّ " لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ " (لو58:9)، فالفقر لم يكن حليف طفولتك فقط، بل صديقاً رافقك على الأرض كل أيام حياتك، فعشت الحياة بعد أن حررتها من آلام الغنى، فكانت بسيطة لا يشوبها الطمع، أو يُرهقها الجشع، أو تُمزّقها الأنانية، ولهذا تمتّعت بالحياة كأنّك تملكها كلها، فكنت تُصلّي فى البساتين وعلى الجبال، وتجلس تحت أغصان الكروم، تتأمل ذاتك الكرمة الحقيقية التى ستدخل المعصرة لتخرج ترياقاً يشفي البشرية من آلامها! فعلّمتنا أنَّ الحياة تتحول إلى سجن كبير إذا غلّف المال جدران بيوتنا!

أمَّا فى جثسيماني فقد خرجت الخطايا من شقوق الضمائر، تُجرجر فى خزي قُبح معاصيها، تفح كالأفاعي لَعَلَّها تقضي على الحمل الوديع، قبل أن ينقض هو عليها ويمحوها، الأمر الذى جعل عروقه تتفجر حزناً " وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ! " (لو44:22)، فصار الألم كزلزال حَبَلتْ به الأرض فتمخّضت متوجّعه، تريد أن تلد الخراب والشقاء، ولكنها على غير عاداتها لم تلد سوى الخلاص!

إنَّ الحُب هو الذى جعلك تتألم من أجلنا، ولولا حُبِّك لجرَّدت نفسك من الأقمطة فى المزود وعدت إلى عرش مجدك، ولولا الكآبة التي في أعماقنا جميعا لَمَا كان ممكناً أن تُقيم لحظة على أرض الألم، تبكي وتنوح على خطايا لم تفعلها، وكل إنسان إذا أحب غيره بإخلاص تحوّل الألم من أجله إلى طاقة عطاء وبذل، فالحُب هو المُحرقة التى تُقدّس الألم، ولذلك فإنَّ العرق والدم المتساقط عليك، كان يكتب على جسدك المُمزق بالسياط، أسمى كلمات الصفح والغفران التى هى رمز المحبّة الصادقة.

فيا ملك الحُب، أيها القلب السماويّ، هنا وهناك، بين الميلاد والكفن... أرى أولادك كطيور السماء يُسبّحون، وكزنابق الحقل يبتسمون ويُرددون صدى أُنشودتك، إلاَّ أنَّ العالم يصلبهم كل يوم!! لكننا لن نُطالبك بآية مثل الفريسيين لكي نؤمن بك، فالحُب الذي أنزلك من السماء وأصعدك على الصليب هو آية الآيات!

أعترف يارب بأنَّ جميع الأنهار لن تقدر أن تذهب بذكراك الخالدة من قلبي، لأنَّك قد أحببتنا وكان قلبك معصرة، أمَّا أنا والجميع ففى استطاعتنا أن نتقدم إليك بكؤوس حُبنا فنشرب وترتوي نفوسنا، ولهذا ففي كل عام أنتظر أُسبوع آلامك ليزور الربيع وادي قلبي، أنتظر رائحة ورودك لتتهلل روحى، ومهما تقلّبت الفصول فلم تعد لها سلطان أن تمحو جمالك من عالمي، أو تقلع أزهارك من بستان قلبي!

سوف أجعل من قلبي بيتاً لجمالك، وصدري قبراً لآلامك، سوف أُحِِبّك محبة الزهور للربيع، وأرتفع على صليبك، لكى لا أرى الجماجم المطروحة بين الصخور، والأفاعي السامة المنسابة بين الجحور.. فاعطنى يارب كلمات من ذهب ذات أحرف من نور، واجعل من كلامى ناراً تُلهب قلوب سامعيها، كواكب مضيئة تبحث عن ظلمة النفس لتنيرها، أمَّا رنين صوتى فليكن كالماء العذب فى أرض جافة، وحتى إن وصلت كلماتي إليكم وصول الكسيح الذي يدب على العصا، فلن أخجل لأنَّي أُريد أن أتكلم بما يجول بفكرى عن آلام سيدي.

فيا من عُلقت على الصليب أُذكر ضعفنانا وأنعم علينا ببركات صليبك المقدس، وبارك هذه التأملات المتواضعة التى أردت أن أعّبر بها عن رحلة آلامك المقدسة حُبّاً بنا ورغبة فى خلاصنا، آمين.