مرحباً بكم في مدونة نيافة الحبر الجليل الأنبا مرقس أسقف شبرا الخيمة وتوابعها وهى تشمل عظاته ومحاضراته التي يلقيها على طلبة الكلية الإكليريكية وصوره وأعماله في الإيبارشية وموضوعات أخرى

الأربعاء، 16 يونيو 2010

التحرر من القيود



رواسب وقيـود:
لست أعنى أنطلاق الروح من الجسد ، ذلك المعنى الذى قصده سمعان الشيخ حين قال "{ الآن يا رب أطلق عبدك بسلام حسب قولك .} أنما أعنى إنطلاف الروح وهى ما تزال في الجسد ، انطلاقها من كل ما يحيطها من رباطات وقيود ،حينيبدأ السلام الكامل ويعيش الإنسان في حرية اولاد الله .
اترى يا أخى العزير الطفل بعد عماده وروحه حرة طليقة كما أوجدها الله فيه ، ثم أتعرف ماذا حدث لها ؟!

لقد ارسب عليها العالم والعرف والبيئة رواسب عدة ، وتقيدت من جاء ذلك وغيره بقيود كثيرة تعوقنى انطلاقها إلي حيث تريد ان تذهب لتتحد بالل وتثبتفيه ، وكل ما يبحث عنه أولاد الله هو إنطلاق الروح من كل هذا : انطلاقها من قيود العالم والبيئة ، وانطلاقها أيضاً من قيود الحس والحكمة البشرية .

وهنا التفت الأب الراهب وقال : هل يحسب البعض أن السيد المسيح عندما قال : { ان لم ترجعوا وتصيروا مثل الطفال لن تدخلوا ملكوت السموات } كان يقصد { أن لم تصغروا وتصيروا مثل الأطفال { كلا . بل كان يود أن يقول :{أن لم تكبروا في الروح جداً حتي تصيروا مثل الأطفال فلن تدخلوا ملكوت السموات } ؟

قيـود الحس :
وقف أمام القديس مقاريوس الكبير راهب حاربه البر الذاتى حتى ظن أنه تخلص من الزنا وحب المال والغضب ، فسأله الأب القديس عما يشعر به اذا رأى أمرأة : فقال أعرف أنها أمرأة ولكنى أهرب لئلا أشتهيها . فسأله أيضاً عن شعوره أذا راى مالا ملقى في الصحراء ، ايستطيع أن يفرق بينه وبين الحصى

فأجاب بأنه يستطيع ذلك ولكنه يمنع نفسه من محبة المال ، وسأله القديس ثالثاً عن شعورإذا أهانه أحد ، فأجاب بأنه يحس أنه أهين ولكنه لا يبيت الغيظ في قلبه . وهنا التفت القديس إلي الراهب وأخبره أنه ما يزال تحت الآلام . وأنه في حاجة إلي جهاد أكثر . وبدأ يعظه ..
أنهل قيود الحس يا صديقي القارئ التي تجعل المرء يفرق بين الرجل والمرأة المتقدمة في السن والفتاة الشابة ، وبين الفتاة { الجميلة } و { غير جميل}.

أنها قيود الحس أيضاً التي تجعله يفرق بين النقود والحصى ... وماذا أذن عن الاهانة والمديح ؟.
ذهب أحد الرهبان الي القديس مقاريوس وطلب منه نصيحة ، فامره القديس أن يذهب ويمدح الموتى فذهب ومدحهم فلم يرد عليه منهم احد ، فأمره القديس أن يذهب ويشتد عليهم في القول ، ففعل ذلك فلم يرد عليه أحد .

فقال القديس للراهب : وهكذا أنت ما دمت قد مت عن العالم فيجيب أن تشبه هؤلاء الموتى ، لا تتأثر في شئ ، وإنما سيان عندك أن مدحك الناس أو ذموك ..
وفي أحدى المرات احضر أحد الأثرياء هبة مالية إلي الدير لتفرق علي الرهبان ، ولكى يقدم رئيس الدير لهذا الثرى عظة عملية ، وضع المال جانبا وامر بدق الناموس فأجتمع الرهبان ، فطلب إليهم الأب الرئيس أن يصنعوا محبة ويأخذوا ما يحتاجونه من هذا المال ، ولما شئيا رغم الألحاح الشديد ، تأثر الرجل الثرى جداً ، وطلب أن يترهب ..

أن العالم يا اخى الحبيب والجسد أيضاً قد ارسب على احساساتنا رواسب عديدة كان من نتائجها أن اشياء عالمية كثيرة مأدية وجسدية أصبحت تبدو لنا فى صورة اجمل من غيرها واكثر جاذبية وأعمق أثرأ في النفس . وعندما تسموا الروح ، وعندما تنطلق إلي حد ما مما يعرقل طريقها من القيود ، عند ذلك سيرقى احساسها جداً ، أو قل ستنطلق من الحس العالمى ، وتفهم الأمور بادراك آخر روحى

هل أذا طال بل السفر بعيداً عن اسرتك ، ثم قابلتهم بعد هذا الفراق الطويل فعانقوك في محبة وفي شوق زائد ، هل وسط تلك المحبة التي سبحت فيها روحك ، ستحس أن اباك الرجل يختلف عن أمك المراة ، وأخيك الفتى ، وأحتك الفتاة . وهل عامل الأنقاذ في الحرائق أو حوادث الغرق يحس أن الجسم الذى يحمله منقذا أياه

من الهلاك ، هو جسم فتى أو فتاة ، أو رجل او أمراة ؟ . كلا بل أؤكد لك انه لو أحسن شيئاً من ذها لعرض نفسه للموت هو ومن يعمل علي أنقاذه .
ألا ترى أذن أن الروح تسمو على الحس ، وان هناك أوقات يتعطل فيها الحسن كليا او جزئيا لانهماك الروح فيها هو أعظم ؟ ..

وهكذا أنت في حياتك الروحية عليك أن تتخلص بقدر الأمكان من قيود الحس . وعندئذ ستنظر إلي الأمور بمنظار آخر : سوف لا تحاربك الشهوة ، شهوة العين أو شهوة الجسد أو شهوة المال أو شهوة الناسء أو تعظم المعيشة . بل تكون كملائكة الله فى السماء تنظر إلي كل شئ بتلك { النظرة البسيطة } التي قال عنها السيد المسيح فى عظته علي الجبل : رأن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيراً }{مت22:6}.

علي أن هذه الأفكار لم تكن موضوع الحديث بين أبى الراهبوبينى ، فقد كنا نتكلم فيما هو أعمق من ذها ، فى موقف الحس عند تفهم الإلهيات والتأمل فيها : أن الأحساس الجسدى جسدى ومحدود لذلك فهو لا يستطيع أن يفحص الله الروح غير المحدود . ثم أن الحس البشرى عرضه للخطأ ، وكثيراً ما يخطى في التمييز بين الخطأ والصواب .

لقد رجع التلاميذ الي السيد المسيح فرحين وقالوا له : {حتى الشياطين ايضاً تخضع لنا باسمك } فرد عليهم السيد : {لا تفرحوا بهذا }{لو10: 17، 20} أذ أن أحساسهم كان خاطئاً .
أنظر ايضاً إلي القاتل الذى ثأر لنفسه أو أنتقم لشرفه ، ألا يغمره أحساس بالرضى كأنه أتى عملاً جليلاً . أنه حس خاطئ . وانت كذلك يا اخي المحبوب قد تراودك في صلواتك وخلواتك وتأملاتك أحساسات كثيرة : أمتحنها جيداً فقد تكون أحساسات بشرية غير سليمة .. وحاول أن تطلق روحك من قيود الحس .

بقى أن اقول لك الاحساس بالعالم وموجوداته يتعطل عند الاستغراق في الإلهيات . كانت حنه تصلي في الهيكل . كانت منسكبة النفس أمام الله فلم تشعر بما يدور حولها حتى أن عالى الكاهن حسبها سكرى فقال لها :{إلي متى تسكرين . قومى انزعى خمرك عنك }.{1صم1: 13، 14}.

وهكذا أنت : أن كنت منصرفا بكليتك إلي الصلاة أو التأمل فسوف لا تشعر اطلاقاً بما يدور حولك . قد يتكلم البعض غلي جوارك وقد تقود ضجة . وقد تتهادى مناظر كثيرة ، وأنت لا تدرى عن كل ذلك شيئاً لأنك منهمك فى أمور أخرى في عالم الروح . أن حسك معطل نسبيا لأن روحك ؟ لا ادرى ، ولكنى أعلم ان القديس يوحنا القصير كانت تمر عليه في تأملاته فترات يتكلم فيها الناس إليه فلا يسمع صوتهم ولا يدرى

ماذا يقولون ، ويسأله السائل مرة أخرى فيجيبه القديس { ماذا تريد يا ابني ؟} ويكرر السائل طلبه ولا يسمعه القديس أيضاً . لأن روحه منشغله بأشياء أخرى أهم وأعمق وألصق بالسمع والذاكرة . وكانوا يسألونه أحياناً أسلئة فيجيبهم عنها بتأملات لاهوتية لا علاقة لها بما يسألونه عنه ، لأنه لم يسمع ما قالوه .
كانت روحه منطلقة من الحس ....

الإنطلاق من { الحكمة البشرية } أيضاً .
والآن ، ماذا أقول ؟هل أقول أن تنطلق الروح من نطاق الحكمة البشرية أيضاً ؟ يخيل إلي انني أود أن أقول هذا { ألم يجهل الله حكمة العالم }{لأن الرب يعلم أفكار الحكماء باطلة {لأن حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله } لأنه مكتوب { الآخذ الحكماء بمكرهم }{1كو1 : 20 ، 3: 20 ، 19}.
علي الرغم من أن العقل البشري – منذ موجوده –

قاصر ومحدود ، الا أنه كان في حالة افضل يوم خلق الله العالم ونظر إلي كل ما عمله فأذا هو حسن جدا .. ولكن الخطية والعالم وما ورثناه عن القدامى من أفكار وابحاث وخبرات وعادات وتقاليد ونظم وشكلبات . كل ذلك أرسب علي العقل البشرى رواسب كثيرة حتى اصبح – زيادة على قصوره – معرضا للخطأ فى كثير من أحكتمه . وهكذا لا يستطيع وحده أن يفهم الله أو يفحصه

، والذين يظنون أنهم حكماء وعقلاء ويعتمدون على حكمتهم وعقلهم هم ابعد الأشخاص عن الروحيات والإلهيات . وهذكا قال معلمنا بولس الرسول : {وكلامى وكرازتى لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع بل من الله .. لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية بل بما يعلمه الروح القدوس قارنين الروحيات بالروحيات}{1كو2: 4، 12، 13},

أرأيت ياأخى الحبيب بطلان الحكمة البشرية .. فهل يلغى الله الحكمة علي وجه العموم ، كلا . بل يؤيدها . وهكذا يقول معلمنا بولس في نفس رسالته : { لكننا نتكلم بحكمة بين الكاملين ، ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر ولا من عظماء الدهر الذين يبطلون ، بل نتكلم بحكمة الله فى سر },

لذلك إذا أردت لروحك ان تفهم مقاصد الله ، فأطلقها أولا من حكمتك البشرية ، وقف أمام الله جاهلاً فارغا من كل علم وفهم ، حينئذ ستمتلئ بالمعرفة الروحية الكاملة ، وليست المعرفة البشرية القاصرة { لأن الروح يفحص كل شئ حتي أعماق الله .

أليس هذا ما يعنيه معلمنا بولس الرسول اذ يقول : {ان كان احديظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر فليصر جاهلا لكى يصير حكيما }.{1كو18:3}.
تقدم إلي السيد المسيح رجل ذو يد سابسة بطلب اشفاء فأمر السيد أن يمد يده فمدها فصارت سليمة
{مت12: 10، 13}. وتؤخذ هذه الحادثة دليلا على قدرة السيد وهذا صحيح ، ولكن لها وجهاً آخر وهو تحطيم نطاق الحكمة البشرية . لو كان هذا الرجل متمسكاً بالحكمة البشريةة لجادل السيد في الأمر :{ كيف أمد يدا يابسة ؟ هل اليد اليابسة تمتد . ولو كانت تمتد فما حاجتي إلي الشفاء ؟ أشفني أولا ثم أمدها } أما هذا الرجل فصار جاهلاً لكى يصير حكيما . فتجاهل الحكمة البشرية التى لا تؤمن بامتداد اليد اليابسة . والتى لا تؤمن لا بانتقال الجبل من موضعه ، ولا بمشى الرجل على الماء ، ولا بعد التفكير في الغد ..

انها الحكمة البشرية التى جعلت الناس يضعون الله تحت المجهر هو وصفاته وتعاليمه !. وهى { الحكمة } التى جعلت البعض يقبلون من الإنجيل ومن قوانين الكنيسة ما ييرونه بأفكارهم صحيحاً ، ويرفضون

ما لا يتفق ومنطقهم العقلى ..
أما اولاد الله فيتناولون كل شئ ببساطة وبغير تعقيد تريدنا يارب ان نمشى في البحر الأحمر ؟ سنمسى اذن لأنك لابد تشق لنا فيه طريقا فلا نغرق .
هناك أسطورة تقول ان البحر الأحمر لم ينشق عندما ضوبه موسى بعصاه ، وأنما انشق حالما رفع أول رجل قدمه ليضعها في الماء : انها مجرد اسطورة ولكنها تحمل في طياتها معنى ساميا من معانى الروح .

أود أن اخبرك الآن أن الروحيات
في الصحراء والجبل لها طابعهـا
الذى يختلف عن طابع الروحيـات
فى المدينة فمن أهم القيود الــتـى
تتـــعب العــــــابد فــــى المــــــدن