مرحباً بكم في مدونة نيافة الحبر الجليل الأنبا مرقس أسقف شبرا الخيمة وتوابعها وهى تشمل عظاته ومحاضراته التي يلقيها على طلبة الكلية الإكليريكية وصوره وأعماله في الإيبارشية وموضوعات أخرى

الثلاثاء، 6 أبريل 2010

ما هى الثعالب الصغيرة ؟



قد يتوب البعض عن خطايا مُميتة،عَلَقتْ سنينَ كثيرة بثوب حياتهم لكن جمهرة من الحشرات الخبيثةلا زالت تدُب
في قلوبهـم، وثعالب صغيرة تُعشعش في كـرم أنفسهم. ومع هذا يظنون أنَّهم قد تابوا!! هل هم بذلك يخدعون أنفسهم؟! نعم ويدنسون أيضاً قلوبهم ويقضون على أبديتهم، وقد انطبق عليهم القول الإلهيّ: " قَدْ هَلَكَ شَعْبِي مِنْ عَدَم الْمَعْرِفَةِ " (هو6:4)!

إنَّ الثعالب الصغيرة هى أفعال تبدو صغيرة في أعين مرتكبيها، وليست من الأهمية حتى يُجاهد الإنسان ليتوب عنها ويتخلّص منها! مثل الكذب الذي يُسمُّونه بالكذب الأبيض! ومسك سير الناس والحديث عن ضعفاتهم، بحجة معرفة أخبارهم والاطمئنان عليهم، أو إظهار الحق وهناك التدخين الذي يتوهّم كثيرون، أنَّه علامة من علامات الرجولة،

خاصة المُراهقين والحِرَفيين وغير المتعلّمين الذين يقطنون القرى ويجلسون على المقاهي! وما أكثر كلام الهزل والنُكَت القبيحة.. التى تُقال تحت ستار التسلية وتلطيف جلسات السمر، وبسببها قد يهلك عدد ليس بقليل
، وتتلوّث سمعة أُناس كثيرين! أتعرفون ما هو الموت الأدبيّ؟! يقول القديس مارِ أفرآم السريانيّ

الماءوجد ثقباً ها الشيء الصغير قد صار هوة عظيمة إذاً من خلال أشياء صغيرة كثيراً ما تأخذ شكل
الفضيلة يمكن أن نتورّط ونسقط في خطايا قد يصعُب علاجها! وأيضاً نقطة الماء اللينة إذا نزلت بمداومة
على صخرة حفرت فيها حفرة! ولا تنسى أنَّ الشبل الصغير سيأتي يوماً ويصير أسداً، والدودة ثعباناً

ماذا يفعل إبليس لكي يُغريك ويُسقطك في الخطية لا يبث سمومه في قلبك، أو يعشعش بأفكاره العنكبوتية في عقلك مباشرة، لأنَّه إذا أليست النار تتولّد من مستصغر الشرر فعل هذا ففي الحال سوف تكتشف خطته وتُدرك حيلته، وربَّما لا تستجيب لمكره وخِداعه بل وقد تسخر منه ولكن إذا قال لك أنَّ صداقة النساء لا تضر، وما هو الخطر إذا

جلس الشاب مع زميلته فترة راحة ما بين المحاضرات، يتبادلان الأفكار معاً، ويتحدّثان عن حياتهما الخاصة، أو يذهبان للتنزه معاً، أو يُذاكران في مكان خالٍٍٍ وحدهما، فهذه كلها وسائل نافعة، تُساعد الشاب على فهم المرأة بصورة أفضل، وتجعله زوجاً ناجحاً في المستقبل..هكذا يفعلون في الغرب: يختلطون معاً منذ الصِغر، ولا يمكن لشاب أن يحيا بلا صديقة فما أسهل أن يستجيب الشاب بسرعة، وتكون هذه بداية السقوط الفعليّ في الزنى!

كان لملك ابنة صرعها روح نجس، ولم يستطع أحد إخراجه.. فذهبوا إلى القديس يعقوب المجاهد، فلمَّا صلى عليها خرج الروح النجس، ولكن ما أن عادت إلى بلدها، حتى عاد إليها مرّة أُخرى، فعادوا بها إلى القديس، وهكذا استمر الروح النجس بين دخول وخروج، فقرر الملك أن تبقى ابنته بجوار

القديس، فاستجاب بسهولة لهذا الشيء الذي ظهر له كأنَّه شيء تافه! فبنوا لها حجرة صغيرة.. وكلّما كان الشيطان يصرعها يُدخلونها إليه ليُصلي لها فيخرج منها، وتطوّر الأمر إلى أن أبقوها معه، ثم أخيراً تركوها ومضوا دون أن يعترض الراهب المتوحّد!

ولكن بمرور الوقت تكوَّنت دالة بين القديس والفتاة، وهذه الدالة تطوّرت إلى خطية، إذ سقط في الزنى وحبلت الفتاة.. فلمَّا رأى أنَّ الخطية سوف تُكشف وتضيع سمعته، وربَّما يموت بيد الملك، وسوَس له الشيطان أن يقتلها، فاستجاب ودفنها في مكان بعيد! وحدث أن جاء رسل الملك يسألونه عنها، فكذب عليهم وقال: إنَّ الشيطان صرعها مرّة، فانطلقت بسرعة هاربة في الجبل، ولم أستطع اللحاق بها فاختفت.. فصدقوا كلامه لأنَّه لم يكن موضع شك

وبذلك قد سقط القديس العظيم في ثلاث خطايا بشعة، ألا وهى: الزنى والقتل والكذب! والسبب..!!
وربَّما تكون الثعالب الصغيرة عادة سيئة، اعتاد الناس مُمارستها دون النظر إلى عواقبها، مثل شرب الخمر ليلة رأس السنة والأعياد، كنوع من الفرح أو التسلية أو فتح الشهية، أو لمجاراة الشلّة في النوادي وعلى المقاهي.. وهذه إذا لم تضر الكبار! فربَّما تقود الصغار إلى السقوط في بئر الإدمان.

هل رأيت طفلاً يُدخّن؟! لقد حدث بالفعل أنَّ رأى أباً طفله وبيده سيجارة مشتعلة يضعها في فمه.. فلمَّا سأله: لماذا تفعل هكذا؟ قال: باعمل زي ماما!! هذا الموقف يُذكّرني بفيلسوف سأله رجل في يوم ما قائلاً: متى أؤدب ابني ؟ فأجاب
: قبل أن تتزوج!! لا تتعجب‍وا!! فالفيلسوف يعلم جيداً أنَّ الإنسان لن يكون له أولاد قبل الزواج، ولكنَّه أراد بأُسلوب فلسفيّ أن يقول له: قبل أن تتزوج أدّبْ نفسك أولاً بالفضيلة، فعندما يكون لك أولاد بعد الزواج، سوف يتعلمون

منك الفضيلة بالقدوة لأنَّ الطفل مُقلّد! نعترف بأنَّ أساس المجتمع هو الفرد الفاضل، الذي يحيا في أُسرة فاضلة،
ونستطيع أن نتحقق من هذا لو نظرنا إلى عالم اليوم، لكي نرى أنَّ سبب انتشار الفساد، الذي غلّف الكون بضبابه الكثيف، هو اختلال الأُسرة، وعجزها عن أن تحيا حياة سليمة، بسبب ضعف أربابها عن تقويم أنفسهم بالفضيلة‍! ولهذا قال أحد الفلاسفة:

إنَّ القُدامى عندما أرادوا نشر الفضيلة، بدأوا أولاً بتنظيم ولاياتهم، ولمَّا أرادوا أن يُحسنوا تنظيم ولاياتهم، بدأوا بتنظيم أُسرهم، وعندما أرادوا تنظيم أُسرهم، بدأوا بتهذيب نفوسهم..

يُحكَى أنَّ لصاً سطا على منزل رجل ثريّ لكي يسرقه، ولكن على غير المتوقع، استيقظ الرجل في نصف الليل، ففاجأ اللص وهو يسرق، فوقع عليه لكي يمسكه، وأخذ يصرخ بشدة، فلمّا فشل اللص في الهروب، أطلق عليه النار فوقع الرجل قتيلاً.. فكانت النتيجة أن حُكم على المجرم بالإعدام شنقاً..

فلمَّا جاء وقت تنفيذ الحكم سألوه كالعادة: أتريد شيئاً؟ فأجاب: نعم، أريد أن أرى أمي، فأحضروها إليه، فطلب أن تقترب منه ليقول لها سراً، فلمَّا اقتربت إذا به يمسكها من عنقها ويعُض أُذنها بأسنانه فقطعها!!ثم نظر إليها وهى تصرخ وقال: هذا أقل جزاء لكِ منّي، فأنتِِِِ التي أتيتِِ بي إلى هذا المكان، لأنَّكِ لو لم تطلبي منّي سرقة البيض
من جارتك وأنا طفلاً ما صرت لصاً وأنا رجل!!

يقول مارِ إسحق السريانيّ: " احترس من العادات أكثر من الأعداء "، إنَّها حكمة إن دلتْ فإنَّما تدل على سلطان العادة، فقد يُعاديني إنسان فإذا مات انتهت عداوته لي واسترحتُ من أتعابه، أمَّا العادات الخاطئة فتبقى حيّة مدة لا نعلمها، وبصعوبة يستطيع الإنسان أن يتخلَّص منها، وغالباً ما تقود إلى نتائج سيئة.

ألسنا نرى كثيرين يبثون في أولادهم روح الكراهية والحقد والقتال، ويُعلّموهم كيف يسبّون بوقاحة أعداءَهم؟! إنَّها حقيقة يحياها البعض، وهم لا يدرون أنَّ هذه الأفعال هي خنجر يضعونه في أيدي أولادهم ليطعنوهم به؟! لا تتعجبوا! فالذي سيحدث هو الآتي: تكوين عادة سيئة لدى الأطفال تجاه غيرهم، وهذه العادة ستتسلط عليهم، فإذا لم يجدوا عدواً أمامهم سوف يسبّون ويضربون مَن يجدونه أمامهم من جيرانهم أو أقاربهم أو حتى أولادهم..

أتعرفون مكوّنات الحبل؟ مجموعة ضعيفة جداً من الخيوط، اجتمعتْ واتحدتْ معاً فكوَّنت هذا الحبل القويّ!! وهكذا تتحوّل الومضات الضعيفة إلى شعلات متأججّة من النجاسة، تحرق كل ما يحيط بها! وتصبح حياة ذلك الشقيّ التعس المستسلم لسلبياته، لحظات قاسية من الوحدة النفسية والقلق واليأس..

فما من إنسان قد عاش كحيوان جائع ،
إلاّ وأتى يوم عاش فيه كإنسان متوجّع!

" اَلأَمِينُ فِي الْقَلِيـلِ أَمِينٌ أَيْضاً فِـي الْكَثِير ِ" (لو10:16)، هذه آية أثبت بها السيد المسيح أهمية التدقيق في كل ما هو صغير، ومن هو الشخص الأمين إلاَّ الذي يضبط أفكاره بدقة، ويتحكّم بثقة في نظراته، ويختار بحكمة ألفاظه..؟ تلك أشياء تبدو في نظر البعض تافهة أو صغيرة! وهم لا يدرون أنَّ الماء الذي يُغرق سفينة، قد يدخل من ثقب صغير كما من ثقب كبير! فالمشكلة إذن في الثقب وليستْ في حجمه.

وهل نُنكر أنَّ قصة الطوفان الهائلة قد بدأتْ بنظرة؟! " أَبْنَاءَ اللهِ رَأُوا بَنَاتِ النَّاسِ أَنَّهُنَّ حَسَنَاتٌ " (تك1:6)، فلمَّا نظروا مالت إليهن أجسادهم، والشهوة عمياء لا ترى، صماء لا تسمع، خرساء لا تتكلّم، وهى لا تريد سوى شيئاً واحداً: أن تتحق، وقد تحققت الشهوة وحدثت المأساة! ولهذا يضع القديس أُغسطينوس النظرة أول حلقات السقوط فيقول
: إنَّ حلقات أربعة: نظرة، فتصور، فهُيام، فسقوط، كما قال أحد الحكماء: من النظرة تتولّد الرغبة.

يقول مارِ إسحق السريانيّ
" الذي يؤمن أنَّه من الشرارة الصغيرة تشتعل النار، فليحترس لئلا يجمع الشهوة، لأنَّها إذا وجدتْ مادة تُغذيها داخل الإنسان، فإنَّها تلتهب وتزداد اشتعالاً، حتى تحرق ما ينبتُ على قلب الإنسان أمَّا دخانها فيعمي كثيرين ".

هنا أتذكّر قصة الراهب العفيف، الذي أصر على الاحتفاظ بطهارته، وذلك عندما اشتد عليه قتال الزنا، فماذا فعل؟ ذهب لكي يلقى بنفسه فى" جُحر" كانت تعيش فيه ضبعة، وكان يقول: خير لي أن أموت بهذه الضبعة من أن أموت بالخطية، وقد كان!! إذ ألقى بنفسه في " الجُحر".. وهنا كانت

المفاجأة المذهلة التى لا يتوقعها أحد، فالضبعة المتوحّشة
تحوّلت إلى حيوان أليف ترعاه وتخدمه وتأتيه بالطعام..! فعاد الراهب الطاهر المجاهد إلى قلايته منتصراً، وهو

يحمل في قلبه كنزه الثمين، الذي هو عفّته. ومن هذه القصة نتعلّم أنَّ كل من يضبط هواه، ويُدقق في كل ما هو صغير،
قادر بنعمة الله لا أن ينتصر فقط، بل ويُغيّر طبائع الوحوش أيضاً! وإلاَّ فما معنى قول مُعلّمنا القدّيس بولس الرسول أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي (في13:4) كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ (مر23:9).
يقول القديس مرقس الناسك " يُقّدم لنا الشيطان خطايا صغيرة تبدو وكأنَّها تافهة في أعيننا، لأنَّه لا يقدر
بغير هذه الأمور أن يقودنا إلى الخطية العُظمى" !!

رأتْ امرأة شريرة شاباً وسيماً ، فأخذت تُطيل النظر إليه لَعَلّها تجذبه إليها وتُسقطه في الخطية، أمَّا الشاب الطاهر والمُدقق في حياته الروحية، لمَّا رأى شرها وسوء نيتها قال لها: ما الذي يُعجبك فيّ أيتها الفتاة حتى تنظري إلي هكذا؟ فقالت الفتاة: حواجبك الجميلة تُبهرني!! ففي الحال قطع الشاب حاجبيه بقسوة شديدة وألقاهما للمرأة وهو يقول لها: خذي ما اشتهيتيه واغربي عن وجهي!! فارتعبت المرأة من شدة تعلّق الشاب بعفته، فتركتْه وهى متعجبة مما حدث!!

هذا الشاب قد صار من أعظم البطاركة،
إنَّه البابا متَّاؤس الأول البطريرك(87).

مثل هذه الخطايا، شبهها الكتاب المقدس بالثعالب الصغيرة فيقول: " خُذُوا (امسكوا) لَنَا الثَّعَالِبَ الثَّعَالِبَ الصِّغَارَ الْمُفْسِدَةَ الْكُرُومِ " (نش15:2)، فهو يُكرر كلمة الثعالب كنوع من التأكيد المفعم بالتحذير، فالثعالب وإن كانت صغيرة، إلاَّ أنِّها في مواقف كثيرة قد تكون أكثر خطورة من الثعالب الكبيرة، لأنِّها تستطيع أن تتسلل من الفتحات الصغيرة بسهولة لكي تفسد الكروم! كما أنَّ الثعلب الصغير لو تُرك سيأتي عليه يوم ويكبُر!

أمَّا القديس العظيم أُغسطينوس فقد شبَّهها بقناع رديء المنظر، إذا لبسه إنسان شوّه جمال وجهه، وجعل منظره كئيباً ينفر الناس بشدة من مجرد رؤيته. وهناك من شبّهها بدودة آكلة تنخر في العقل، وتفسد كل ما هو حسن في الطبيعة البشرية، كما تفسد الدودة الشجرة وتتلف ثمرها دون أن تراها العين! وينظر إليها البعض على أنَّها ثغرة رغم
صغرها، إلاَّ أنَّها تُهدد البناء الشامخ وقد يصعُب إصلاحها فيما بعد! أو هى ثقب صغير له قدرة أن يغرق السفينة..

إنَّها سيف حـاد يفصل الإنسان عن خالقه،
شبكة تُعرقل النفس عن الوصول للفضيلة،
حجاب أسود كثيف يفصل عنا نور الحياة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق