الثلاثاء، 6 أبريل 2010
ما هى الثعالب الصغيرة ؟
قد يتوب البعض عن خطايا مُميتة،عَلَقتْ سنينَ كثيرة بثوب حياتهم لكن جمهرة من الحشرات الخبيثةلا زالت تدُب
في قلوبهـم، وثعالب صغيرة تُعشعش في كـرم أنفسهم. ومع هذا يظنون أنَّهم قد تابوا!! هل هم بذلك يخدعون أنفسهم؟! نعم ويدنسون أيضاً قلوبهم ويقضون على أبديتهم، وقد انطبق عليهم القول الإلهيّ: " قَدْ هَلَكَ شَعْبِي مِنْ عَدَم الْمَعْرِفَةِ " (هو6:4)!
إنَّ الثعالب الصغيرة هى أفعال تبدو صغيرة في أعين مرتكبيها، وليست من الأهمية حتى يُجاهد الإنسان ليتوب عنها ويتخلّص منها! مثل الكذب الذي يُسمُّونه بالكذب الأبيض! ومسك سير الناس والحديث عن ضعفاتهم، بحجة معرفة أخبارهم والاطمئنان عليهم، أو إظهار الحق وهناك التدخين الذي يتوهّم كثيرون، أنَّه علامة من علامات الرجولة،
خاصة المُراهقين والحِرَفيين وغير المتعلّمين الذين يقطنون القرى ويجلسون على المقاهي! وما أكثر كلام الهزل والنُكَت القبيحة.. التى تُقال تحت ستار التسلية وتلطيف جلسات السمر، وبسببها قد يهلك عدد ليس بقليل
، وتتلوّث سمعة أُناس كثيرين! أتعرفون ما هو الموت الأدبيّ؟! يقول القديس مارِ أفرآم السريانيّ
الماءوجد ثقباً ها الشيء الصغير قد صار هوة عظيمة إذاً من خلال أشياء صغيرة كثيراً ما تأخذ شكل
الفضيلة يمكن أن نتورّط ونسقط في خطايا قد يصعُب علاجها! وأيضاً نقطة الماء اللينة إذا نزلت بمداومة
على صخرة حفرت فيها حفرة! ولا تنسى أنَّ الشبل الصغير سيأتي يوماً ويصير أسداً، والدودة ثعباناً
ماذا يفعل إبليس لكي يُغريك ويُسقطك في الخطية لا يبث سمومه في قلبك، أو يعشعش بأفكاره العنكبوتية في عقلك مباشرة، لأنَّه إذا أليست النار تتولّد من مستصغر الشرر فعل هذا ففي الحال سوف تكتشف خطته وتُدرك حيلته، وربَّما لا تستجيب لمكره وخِداعه بل وقد تسخر منه ولكن إذا قال لك أنَّ صداقة النساء لا تضر، وما هو الخطر إذا
جلس الشاب مع زميلته فترة راحة ما بين المحاضرات، يتبادلان الأفكار معاً، ويتحدّثان عن حياتهما الخاصة، أو يذهبان للتنزه معاً، أو يُذاكران في مكان خالٍٍٍ وحدهما، فهذه كلها وسائل نافعة، تُساعد الشاب على فهم المرأة بصورة أفضل، وتجعله زوجاً ناجحاً في المستقبل..هكذا يفعلون في الغرب: يختلطون معاً منذ الصِغر، ولا يمكن لشاب أن يحيا بلا صديقة فما أسهل أن يستجيب الشاب بسرعة، وتكون هذه بداية السقوط الفعليّ في الزنى!
كان لملك ابنة صرعها روح نجس، ولم يستطع أحد إخراجه.. فذهبوا إلى القديس يعقوب المجاهد، فلمَّا صلى عليها خرج الروح النجس، ولكن ما أن عادت إلى بلدها، حتى عاد إليها مرّة أُخرى، فعادوا بها إلى القديس، وهكذا استمر الروح النجس بين دخول وخروج، فقرر الملك أن تبقى ابنته بجوار
القديس، فاستجاب بسهولة لهذا الشيء الذي ظهر له كأنَّه شيء تافه! فبنوا لها حجرة صغيرة.. وكلّما كان الشيطان يصرعها يُدخلونها إليه ليُصلي لها فيخرج منها، وتطوّر الأمر إلى أن أبقوها معه، ثم أخيراً تركوها ومضوا دون أن يعترض الراهب المتوحّد!
ولكن بمرور الوقت تكوَّنت دالة بين القديس والفتاة، وهذه الدالة تطوّرت إلى خطية، إذ سقط في الزنى وحبلت الفتاة.. فلمَّا رأى أنَّ الخطية سوف تُكشف وتضيع سمعته، وربَّما يموت بيد الملك، وسوَس له الشيطان أن يقتلها، فاستجاب ودفنها في مكان بعيد! وحدث أن جاء رسل الملك يسألونه عنها، فكذب عليهم وقال: إنَّ الشيطان صرعها مرّة، فانطلقت بسرعة هاربة في الجبل، ولم أستطع اللحاق بها فاختفت.. فصدقوا كلامه لأنَّه لم يكن موضع شك
وبذلك قد سقط القديس العظيم في ثلاث خطايا بشعة، ألا وهى: الزنى والقتل والكذب! والسبب..!!
وربَّما تكون الثعالب الصغيرة عادة سيئة، اعتاد الناس مُمارستها دون النظر إلى عواقبها، مثل شرب الخمر ليلة رأس السنة والأعياد، كنوع من الفرح أو التسلية أو فتح الشهية، أو لمجاراة الشلّة في النوادي وعلى المقاهي.. وهذه إذا لم تضر الكبار! فربَّما تقود الصغار إلى السقوط في بئر الإدمان.
هل رأيت طفلاً يُدخّن؟! لقد حدث بالفعل أنَّ رأى أباً طفله وبيده سيجارة مشتعلة يضعها في فمه.. فلمَّا سأله: لماذا تفعل هكذا؟ قال: باعمل زي ماما!! هذا الموقف يُذكّرني بفيلسوف سأله رجل في يوم ما قائلاً: متى أؤدب ابني ؟ فأجاب
: قبل أن تتزوج!! لا تتعجبوا!! فالفيلسوف يعلم جيداً أنَّ الإنسان لن يكون له أولاد قبل الزواج، ولكنَّه أراد بأُسلوب فلسفيّ أن يقول له: قبل أن تتزوج أدّبْ نفسك أولاً بالفضيلة، فعندما يكون لك أولاد بعد الزواج، سوف يتعلمون
منك الفضيلة بالقدوة لأنَّ الطفل مُقلّد! نعترف بأنَّ أساس المجتمع هو الفرد الفاضل، الذي يحيا في أُسرة فاضلة،
ونستطيع أن نتحقق من هذا لو نظرنا إلى عالم اليوم، لكي نرى أنَّ سبب انتشار الفساد، الذي غلّف الكون بضبابه الكثيف، هو اختلال الأُسرة، وعجزها عن أن تحيا حياة سليمة، بسبب ضعف أربابها عن تقويم أنفسهم بالفضيلة! ولهذا قال أحد الفلاسفة:
إنَّ القُدامى عندما أرادوا نشر الفضيلة، بدأوا أولاً بتنظيم ولاياتهم، ولمَّا أرادوا أن يُحسنوا تنظيم ولاياتهم، بدأوا بتنظيم أُسرهم، وعندما أرادوا تنظيم أُسرهم، بدأوا بتهذيب نفوسهم..
يُحكَى أنَّ لصاً سطا على منزل رجل ثريّ لكي يسرقه، ولكن على غير المتوقع، استيقظ الرجل في نصف الليل، ففاجأ اللص وهو يسرق، فوقع عليه لكي يمسكه، وأخذ يصرخ بشدة، فلمّا فشل اللص في الهروب، أطلق عليه النار فوقع الرجل قتيلاً.. فكانت النتيجة أن حُكم على المجرم بالإعدام شنقاً..
فلمَّا جاء وقت تنفيذ الحكم سألوه كالعادة: أتريد شيئاً؟ فأجاب: نعم، أريد أن أرى أمي، فأحضروها إليه، فطلب أن تقترب منه ليقول لها سراً، فلمَّا اقتربت إذا به يمسكها من عنقها ويعُض أُذنها بأسنانه فقطعها!!ثم نظر إليها وهى تصرخ وقال: هذا أقل جزاء لكِ منّي، فأنتِِِِ التي أتيتِِ بي إلى هذا المكان، لأنَّكِ لو لم تطلبي منّي سرقة البيض
من جارتك وأنا طفلاً ما صرت لصاً وأنا رجل!!
يقول مارِ إسحق السريانيّ: " احترس من العادات أكثر من الأعداء "، إنَّها حكمة إن دلتْ فإنَّما تدل على سلطان العادة، فقد يُعاديني إنسان فإذا مات انتهت عداوته لي واسترحتُ من أتعابه، أمَّا العادات الخاطئة فتبقى حيّة مدة لا نعلمها، وبصعوبة يستطيع الإنسان أن يتخلَّص منها، وغالباً ما تقود إلى نتائج سيئة.
ألسنا نرى كثيرين يبثون في أولادهم روح الكراهية والحقد والقتال، ويُعلّموهم كيف يسبّون بوقاحة أعداءَهم؟! إنَّها حقيقة يحياها البعض، وهم لا يدرون أنَّ هذه الأفعال هي خنجر يضعونه في أيدي أولادهم ليطعنوهم به؟! لا تتعجبوا! فالذي سيحدث هو الآتي: تكوين عادة سيئة لدى الأطفال تجاه غيرهم، وهذه العادة ستتسلط عليهم، فإذا لم يجدوا عدواً أمامهم سوف يسبّون ويضربون مَن يجدونه أمامهم من جيرانهم أو أقاربهم أو حتى أولادهم..
أتعرفون مكوّنات الحبل؟ مجموعة ضعيفة جداً من الخيوط، اجتمعتْ واتحدتْ معاً فكوَّنت هذا الحبل القويّ!! وهكذا تتحوّل الومضات الضعيفة إلى شعلات متأججّة من النجاسة، تحرق كل ما يحيط بها! وتصبح حياة ذلك الشقيّ التعس المستسلم لسلبياته، لحظات قاسية من الوحدة النفسية والقلق واليأس..
فما من إنسان قد عاش كحيوان جائع ،
إلاّ وأتى يوم عاش فيه كإنسان متوجّع!
" اَلأَمِينُ فِي الْقَلِيـلِ أَمِينٌ أَيْضاً فِـي الْكَثِير ِ" (لو10:16)، هذه آية أثبت بها السيد المسيح أهمية التدقيق في كل ما هو صغير، ومن هو الشخص الأمين إلاَّ الذي يضبط أفكاره بدقة، ويتحكّم بثقة في نظراته، ويختار بحكمة ألفاظه..؟ تلك أشياء تبدو في نظر البعض تافهة أو صغيرة! وهم لا يدرون أنَّ الماء الذي يُغرق سفينة، قد يدخل من ثقب صغير كما من ثقب كبير! فالمشكلة إذن في الثقب وليستْ في حجمه.
وهل نُنكر أنَّ قصة الطوفان الهائلة قد بدأتْ بنظرة؟! " أَبْنَاءَ اللهِ رَأُوا بَنَاتِ النَّاسِ أَنَّهُنَّ حَسَنَاتٌ " (تك1:6)، فلمَّا نظروا مالت إليهن أجسادهم، والشهوة عمياء لا ترى، صماء لا تسمع، خرساء لا تتكلّم، وهى لا تريد سوى شيئاً واحداً: أن تتحق، وقد تحققت الشهوة وحدثت المأساة! ولهذا يضع القديس أُغسطينوس النظرة أول حلقات السقوط فيقول
: إنَّ حلقات أربعة: نظرة، فتصور، فهُيام، فسقوط، كما قال أحد الحكماء: من النظرة تتولّد الرغبة.
يقول مارِ إسحق السريانيّ
" الذي يؤمن أنَّه من الشرارة الصغيرة تشتعل النار، فليحترس لئلا يجمع الشهوة، لأنَّها إذا وجدتْ مادة تُغذيها داخل الإنسان، فإنَّها تلتهب وتزداد اشتعالاً، حتى تحرق ما ينبتُ على قلب الإنسان أمَّا دخانها فيعمي كثيرين ".
هنا أتذكّر قصة الراهب العفيف، الذي أصر على الاحتفاظ بطهارته، وذلك عندما اشتد عليه قتال الزنا، فماذا فعل؟ ذهب لكي يلقى بنفسه فى" جُحر" كانت تعيش فيه ضبعة، وكان يقول: خير لي أن أموت بهذه الضبعة من أن أموت بالخطية، وقد كان!! إذ ألقى بنفسه في " الجُحر".. وهنا كانت
المفاجأة المذهلة التى لا يتوقعها أحد، فالضبعة المتوحّشة
تحوّلت إلى حيوان أليف ترعاه وتخدمه وتأتيه بالطعام..! فعاد الراهب الطاهر المجاهد إلى قلايته منتصراً، وهو
يحمل في قلبه كنزه الثمين، الذي هو عفّته. ومن هذه القصة نتعلّم أنَّ كل من يضبط هواه، ويُدقق في كل ما هو صغير،
قادر بنعمة الله لا أن ينتصر فقط، بل ويُغيّر طبائع الوحوش أيضاً! وإلاَّ فما معنى قول مُعلّمنا القدّيس بولس الرسول أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي (في13:4) كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ (مر23:9).
يقول القديس مرقس الناسك " يُقّدم لنا الشيطان خطايا صغيرة تبدو وكأنَّها تافهة في أعيننا، لأنَّه لا يقدر
بغير هذه الأمور أن يقودنا إلى الخطية العُظمى" !!
رأتْ امرأة شريرة شاباً وسيماً ، فأخذت تُطيل النظر إليه لَعَلّها تجذبه إليها وتُسقطه في الخطية، أمَّا الشاب الطاهر والمُدقق في حياته الروحية، لمَّا رأى شرها وسوء نيتها قال لها: ما الذي يُعجبك فيّ أيتها الفتاة حتى تنظري إلي هكذا؟ فقالت الفتاة: حواجبك الجميلة تُبهرني!! ففي الحال قطع الشاب حاجبيه بقسوة شديدة وألقاهما للمرأة وهو يقول لها: خذي ما اشتهيتيه واغربي عن وجهي!! فارتعبت المرأة من شدة تعلّق الشاب بعفته، فتركتْه وهى متعجبة مما حدث!!
هذا الشاب قد صار من أعظم البطاركة،
إنَّه البابا متَّاؤس الأول البطريرك(87).
مثل هذه الخطايا، شبهها الكتاب المقدس بالثعالب الصغيرة فيقول: " خُذُوا (امسكوا) لَنَا الثَّعَالِبَ الثَّعَالِبَ الصِّغَارَ الْمُفْسِدَةَ الْكُرُومِ " (نش15:2)، فهو يُكرر كلمة الثعالب كنوع من التأكيد المفعم بالتحذير، فالثعالب وإن كانت صغيرة، إلاَّ أنِّها في مواقف كثيرة قد تكون أكثر خطورة من الثعالب الكبيرة، لأنِّها تستطيع أن تتسلل من الفتحات الصغيرة بسهولة لكي تفسد الكروم! كما أنَّ الثعلب الصغير لو تُرك سيأتي عليه يوم ويكبُر!
أمَّا القديس العظيم أُغسطينوس فقد شبَّهها بقناع رديء المنظر، إذا لبسه إنسان شوّه جمال وجهه، وجعل منظره كئيباً ينفر الناس بشدة من مجرد رؤيته. وهناك من شبّهها بدودة آكلة تنخر في العقل، وتفسد كل ما هو حسن في الطبيعة البشرية، كما تفسد الدودة الشجرة وتتلف ثمرها دون أن تراها العين! وينظر إليها البعض على أنَّها ثغرة رغم
صغرها، إلاَّ أنَّها تُهدد البناء الشامخ وقد يصعُب إصلاحها فيما بعد! أو هى ثقب صغير له قدرة أن يغرق السفينة..
إنَّها سيف حـاد يفصل الإنسان عن خالقه،
شبكة تُعرقل النفس عن الوصول للفضيلة،
حجاب أسود كثيف يفصل عنا نور الحياة.
الأحد، 4 أبريل 2010
تجلى الطبيعة البشرية
أهنئكم يا أبنائي وأخوتي الأحباء بعيد القيامة المجيد, راجيا لكم جميعا ولمصرنا العزيزة كل خير وبركة من الهنا الصالح, ومصليا من أجل كل المشكلات في إفريقيا, وفي كل الشرق الأوسط, وفي الأراضي المقدسة وفلسطين, واله السلام قادر أن يفيض بسلامه علي الكل, وما لا يستطيعه البشر, يستطيعه الله القادر علي كل شيء.
وبعد... أريد أن أكلمكم اليوم عن عنصر مهم جدا من عناصر القيامة: وهو أنه في القيامة يتم تجديد وتجلي الطبيعة البشرية, وتجلي هذه الطبيعة يشملها جسدا وروحا وعقلا وفكرا, فتصبح بتجليها في حياة جديدة, مقدسة تماما, مختلفة عما كانت قبلا.
فمن جهة الجسد, نحن نقوم بأجساد نورانية روحانية, قد تخلصت تماما من المادة التي كانت متحدة بها في الحياة الأرضية, وبالتالي تتخلص من كل حروب المادة, وما يتعلق باللحم والدم.
وفي تجلي الجسد, لا يشعر الإنسان في الأبدية بأي جوع, أو عطش, أو تعب, أو مرض, ولا يقاسي من
شهوات جسدية أو مادية, ولا من طياشة الحواس وشغبها وانحرافاتها... هذا من الناحية السلبية.
أما من الناحية الإيجابية, فإن الحواس في تجليها تري ما لا يري, أو ما لم تكن تراه من قبل, فتري أرواح القديسين الذين سبقوها إلي عالم المجد, وتري الملائكة الذين لم ترهم من قبل, وكلهم أرواح
لا يرون إلا بتجلي البصر البشري, وفي تجلي الحواس تسمع الطبيعة البشرية ما لم تكن تسمعه من قبل: من التسابيح السمائية, وأناشيد الملائكة, وأصوات الأبرار من كل البلاد, وعلي مر كل العصور, تسمعهم وتتكلم معهم, وهذا لا تحدث إلا بتجلي الطبيعة البشرية.
الروح أيضا تتجلي, ولا تخطيء أبدا إلي الأبد, لقد كانت تخطيء عندما كانت متحدة بالجسد, يجرها أحيانا معه في شهواته, وفي اتجاهاته المادية, كما تحيطها المادة بإغراءات كثيرة وحروب.
أما في القيامة فقد تخلصت من هذا كله وتحررت ومنحها الله إكليل البر فصارت بارة علي الدوام, وأصبحت تتغذي بالحب الإلهي, وتنمو به يوما بعد يوم, وصارت متعتها الحقيقية هي عشرة الله وملائكته وقديسيه.
وما أجمل قول السيد المسيح عن الحياة في الأبدية, إذ يقول عنها: تكونون كملائكة الله في السماء, أي في طهارة الملائكة البعيدة عن كل الشهوات الجسدية, وكذلك خفة الملائكة الذين يتحركون في لمح البصر إلي أبعد مكان, دون أن يقطعوا وسطا في الطريق. في تجلي الطبيعة البشرية, يتجلي العقل أيضا والفكر والمعرفة, فلا تجول أية فكرة خاطئة في العقل, إذ تكون الطبيعة البشرية قد وصلت
في تجليها إلي نقاوة العقل نقاوة كاملة, ويصبح في بساطة أبوينا الأولين قبل السقوط في الخطيئة.
أما عن المعرفة, ففي التجلي لا يعرف الإنسان سوي الخير فقط, لقد كان في القديم في ازدواجية متعبة, من الخير والشر, والحلال والحرام, وما لايليق, يتأرجح ما بين وضع وعكسه, أما في تجلي الطبيعة البشرية, فأصبحت معرفتها قاصرة علي الخير فقط, وزالت منها كل معرفة لكل أسماء الشر
ومرادفاته, ومحيت من ألفاظ القاموس البشري الجديد كلمة الخطيئة, وما يتبعها من كلمات الفساد, والظلم, والزنا, والدعارة, والقتل, والخداع والكذب والسرقة... وما إلي ذلك. مع محو الماضي الأثيم كله من ذاكرته مع كل أخباره وقصصه وذكرياته, كما تمحي صور الناس الأشرار, أعداء أو أصدقاء, وبعبارة مختصرة: ينسي كل ما تركز في العقل الباطن, وفي الذاكرة, ويصبح
للطبيعة البشرية في التجلي عقل باطن جديد طاهر لا يحوي إلا البر, كما يكون لها قاموس جديد للألفاظ, ليست فيه كلمات الخطيئة علي الإطلاق, بل كل ألفاظ جديدة بارة.
وفي تجلي المعرفة, يبدأ أن يكون للإنسان معرفة بالله, أقصد المعرفة الحقيقية العميقة, فنحن الآن لا نعرف عن الله إلا اسمه, دون أن نعرف الجوهر: نعرف مثلا أن الله كامل, ولكن ما كنه هذا الكمال؟
هذا لا نعرفه, نعرف أن الله عظيم, ومع ذلك لا نعرف ما كنه هذه العظمة نعرف أن الله أبرع جمالا من بني البشر, ولكننا لا نعرف ما كنه هذا الجمال, كل ما نعرفه عن الله هو مجرد أسماء كثيرة, دون أن ندرك كنهها!!
ولكن في الأبدية, حين تتجلي طبيعتنا البشرية, فإن معرفتنا سوف تتجلي, حينما يكشف لنا ذاته أو بعضا من ذاته, فنصبح في ذهول من عجب وروعة مما لا نستطيع أن ندركه, حينئذ يوسع الله مجال إدراكنا حتي نستوعب عنه ما هو أكثر... ومع ذلك كل ما ينكشف لنا من مجد الله وجلاله وجماله
وكماله, يجعلنا في غاية الذهول والعجب, والعجز عن الإدراك, فيوسع الله ادراكنا أكثر وأكثر حتي
يمكننا أن نقترب من فهم ذاته الإلهية, ونحن لا نفهم! أما متي سنعرف الله كما هو, فهذه هي الحياة الأبدية بطولها غير المحدود التي لا تكفي لمعرفته مهما تجلت معرفتنا! علي أننا كلما نعرف عن الله أكثر, نزداد في محبته وإجلاله.
ومع تجلي معرفتنا, نبدأ في أن نعرف أشياء أخري عن الملائكة بكل طغماتهم وصفوفهم وعملهم, ويحتاج هذا بلا شك إلي مدي طويل, ثم تتوسع معرفتنا بجميع الأنبياء والرسل والشهداء والعباد والنساك وسائر الذين أرضوا الرب منذ البدء, فنفرح بهذا, ونبتهج بعشرتهم, وتزداد معرفتنا سعيا وراء فهم كل أسرار الملكوت.
وكل هذا يعمر عقلنا الواعي وعقلنا الباطن بأخبار البر التي تتعلق بكل هؤلاء, وكل ما عملوه في محبة الله وإرضائه, وبكل هذا نتعلق بالبر وبالخير, ويصبح طبيعة فينا, لسنا نجاهد لإدراكها كما كان يحدث في الحياة الأرضية.
وأخيرا وأنا أتكلم عن تجلي الطبيعة البشرية, أريد أن أذكر بعض أمثلة لتبسيط هذا الموضوع:
يحدث أحيانا في أيامنا هذه أن يكون فكر شخص صافيا تخرج منه أفكار في منتهي الروعة, كأن يؤلف قصة أو رواية في منتهي الإبداع, تترك تأثيرا عميقا في الكل, أو شخص ينظم قصيدة تعتبر من أمهات الشعر في خيالها وموسيقاها وعميق معانيها.. فتقول عن هذا الشاعر أو ذلك القصصي إنه كان في حالة تجل.
وقد نقول عن إنسان إنه في حالة تجل, إذا كان الله قد وهبه موهبة معينة بقدرة غير طبيعية في لون من الفن أو الموسيقي أو الرسم أو النحت أو في صناعة ما, فينتج انتاجا نادرا نقول عنه إنه نوع من التجلي, ولكن كل هذه الأمثلة تدل علي تجل مؤقت أما التجلي الذي يكون للطبيعة البشرية بعد القيامة, فهو دائم وثابت.
ما أعظم التجلي الذي يكون لطبيعتنا في الأبدية, ولكن ما قلناه ينطبق علي الأبرار الذين يصلون إلي السماء, وهم في حالة من النقاوة تؤهلهم لمجد هذا التجلي.
ليتنا إذن نستعد لكل ذلك بحياة مقبولة أمام الله.
الجمعة، 2 أبريل 2010
موت ظافر
منذ آلاف السنين ونتيجة السقوط العظيم دخل الموت إلى العالم كنتيجة حتمية للخطية: " بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إِلَى الْعَالَمِ وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيع " (رو12:5)، فأرعب البشر ولم يفلت منه أحد قط، لا الأنبياء أو الكهنة أو الملوك.. فالجميع ساروا فى ظلام الحياة يتبعهم شبح الموت الكئيب، ذلك الوحش الذى يلتهم أجسادنا، ويشرب دماءنا، ويستنزف دموعنا، دون أن يشبع أو يرتوى!
ويُعد أبوانا الأولان - آدم وحواء - أول من رأيا سلطانه الرهيب، رأياه وهو يُظهر قوته فى ابنهما هابيل، الذى قتله قايين أخوه حسداً وغدراً (تك4: 3ـ8)، ومنذ ذلك الوقت استمر الموت يُلوّح بسيفه الرهيب على الأرض، ليفصل بين الإخوة والأحبَّاء، ويُحوّل البهجة إلى مرارة، والسعادة إلى حزن أليم، فما أكثر دموع البشر التى انسكبت فى قلب الحياة، مثلما يتساقط الندى من أجفان الليل فى كبد الصباح!
يسوع يُسلم الروح
أما ابن الإنسان القدوس، الذى لم يفعل خطية ولم يوجد فى فمه غش وقد قال مرّة لليهود " مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ " (يو46:8)، لا يدخل تحت سلطان الموت، لأنَّ الموت إذا جاء لإنسان وجد بابه مفتوحاً فالخطية قد فتحت أبواب البشر، كل البشر للموت، أمَّا يسوع فبابه مُغلق ولم يستطع الموت أن يفتحه إلا بإرادته، فالحمل الذبيح أتى برجله إلى السكين، المُخلّص ألقى بنفسه فى طريق الموت، وإن لم يُرد ما كان الموت يقدر أن يصيده لكن لكى يتم الخلاص كان لابد للبار أن يتألم من أجل الأثمة ويموت (1بط3: 18)، وإلا لماذا نزل من السماء؟ أمَّا اليهود والرومان ويهوذا فكانوا الأداة التى بها تم تنفيذ حكم الموت..!
مات المسيح وكان لابد له أن يموت فى تلك الليلة الحزينة، على ربَوة عالية فى أورشليم، ليموت فيه إنسان العهد القديم بطقوسه الجوفاء، مات الحر ليموت فيه ذل الإنسان وعبوديته للشيطان والموت والخطية، تمزّق الجسد لكي ينطلق حياً بجسد نورانيّ لا يمسّه الفساد.
ولكن إن كان المسيح قد مات بالفعل، إلاَّ أنَّ روحه قد خرجت قوية ومنتصرة وفرحة وليست مجبرة، هكذا تخرج أرواح الأبرار من أجسادهم، أمَّا الأشرار الذين قضوا حياتهم عبيداً للخطية وآلة طيّعة للإثم، فإنهم لا يخافون الموت فقط، بل ويرتعبون من مجرد اسمه، لأنَّهم يعلمون مصيرهم، فحينما يُفكّر الإنسان أنَّه لا محالة " مائت "، وسوف يُلقى فى قبر مظلم ساكن ليس فيه من يسمع أو يتكلم، كما أنَّه سيقف أمام الديان العادل ليُعطي حساباً عن نفسه، فإنَّ الخوف سرعان ما يملأ قلبه، خاصة إن كان يعلم ما فى قلبه من شرور لم يقدم عنها توبة!
ولا يظن أحد أن المسيح عندما نكّس رأسه وأسلم الروح (يو30:19)، أنَّه استسلم للموت عن ضعف، أو كمن يدفع الجزية لقوة قهرية، بل كمن يسلم نفسه للموت طوعاً برغبته، وقد قال مرّة: " لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً " (يو18:10) والدليل:
إنَّه عند موته صرخ " بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ " (مت50:27)، فمن أين له هذه القوة الهائلة؟! روحه إذن لم تُغتصب اغتصاباً، لكنّه هو الذي سلّمها بمحض إرادته فى يدي أبيه، فالمسيح الذى كان قوياً فى حياته كان أيضاً قوياً فى مماته، ولهذا صحبت صرخته العظيمة علامات خارقة: إنشقاق حجاب الهيكل، وزلزلة الأرض، وتشقق الصخور، وتفتّح القبور، وقيام كثير من أجساد القديسين الراقدين (مت51:27،52)، فمنذ الدهر لم نسمع أنَّ ميتاً قد أقام الأموات بموته ؟!!
قال ماريعقوب السروجى:
" بأي ميت تحرَّكتْ الأموات وقاموا من القبور! مَن مِن الأموات سقطت قدامه أسوار الهاوية! من هو الذي رفَس القبور فتجشأت الأموات! من هو الذى ألقى الخراب فى أرض الموت المخصبة! من هو الذى ربُط وصُـلب بين لصوص وحل المربوطين من الظلام وأخرجهم! من هو الميت الذى أعطى الحياة الجيدة وارتعدت منه قرية الأموات لمَّا نظرته داخلاً إليها! من هو الذى وضع عليه إكليل الشوك وصُلب وحل تاج الموت لئلا يملك أيضاً! اخز أيها اليهوديّ وأعلم أنَّه الله وابن الله.. "
صرخ يسوع بصوت عظيم فماذا قال؟ " يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي " (لو46:23)، فكانت أول كلمة ينطق بها على الصليب " يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ " (لو34:23)، وهى أيضاً آخر كلمة نطق بها على الصليب فأفكاره، أعماله... تهدف كلها لتمجيد اسم أبيه، وكان طعامه وشرابه أن يفعل مشيئة الآب، أمَّا محبة أبيه فقد كانت مسرّته وبهجة قلبه.
قبل يُصلب المسيح كان كل من يموت تأتي الشياطين ويتسلّمون روحه، لأنَّ العالم كان فى قبضة الشيطان، وقد عبّر المسيح عن هذا بقوله: " رَئِيسَ هَذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ " (يو30:14)، وعندما مات لعازر المسكين يقول الكتاب المُقدّس: " فَمَاتَ الْمِسْكِينُ وَحَمَلَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ " ( لو22:16)، أمَّا ابن الله فما كان ممكناً لأحد من الملائكة أو رؤساء الملائكة أن يحمل روحه الطاهرة، إنَّما الآب هو وحده الذي له الحق أن يتسلمها.
لقد عادت روح القدوس إلى الآب، فاحتفلت السماء بانتصاره العظيم وحيته الملائكة بقيثاراتها الروحيّة، وهتف بابتهاج الواقفون أمام العرش الإلهيّ، وفى هذا اطمئنان لأرواحنا أنَّها لا تفنى بالموت بل ستظل خالدة، وعن هذا الخلود تساءل أيوب الصديق قائلاً: " إِنْ مَاتَ رَجُلٌ أَفَيَحْيَا؟ " (أى14:14)، فجاء السيد المسيح وأجابه: " مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا " (يو25:11).
إن البشرية ترى يسوع مولوداً من امرأة ، عائشاً كالمساكين، مُهاناً كالضعفاء، مصلوباً كالمجرمين، فتبكيه وترثيه وتندبه، وهذا كل ما تفعله لتكريمه، إنَّها تقف أمام صليبه كطفلة متأوهة بجانب الطائر الذبيح، ولكنها تخشى الوقوف أمام العاصفة التي تُسقط بأعاصيرها الأغصان اليابسة، وإن كانت تستيقظ فى ذكرى صلبه يقظة الربيع وتقف باكية لأوجاعه، إلاَّ أنَّها سرعان ما تطبق أجفانها وتنام نوماً عميقاً، إلى الآن لا يزال البشر يعبدون الضعف بشخص يسوع! ولكن يسوع كان قوياً، ولَعَلَّ السبب في هذا هو أنَّهم لا يفهمون معنى القوة الحقيقية!! ولهذا يقول جبران خليل جبران:
" ما عاش يسوع مسكيناً خائفاً، ولم يمت شاكياً متوجعاً، بل عاش ثائراً، وصُلب متمرداً، ومات جباراً، لم يكن يسوع طائراً مكسور الجناحين، بل كان عاصفة تكسر بهبوبها جميع الأجنحة المعوجة، لم يأتِِِ يسوع من وراء الشفق الأزرق ليجعل الألم رمزاً للحياة، بل جاء ليجعل الحياة رمزاً للحرية والحق، لم يخف يسوع مضطهديه، ولم يخشَ أعداءه، ولم يتوجع أمام قاتليه، بل كان حراً على رؤوس الأشهاد، جريئاً أمام الظلم والاستبداد، يسمع الشر متكلّماً فيُخرسه، ويلتقي بالرياء فيصرعه.. هذا ما صنعه يسوع وهذه هى المبادى التى صُلب لأجلها مختاراً، ولو عَقَل البشر، لوقفوا اليوم فرحين، متهللين، منشدين أناشيد الغلبة ! ".
فلا تقل: أهكذا تبتلع اللجة العصفور؟! أهكذا تنثر الرياح أوراق الورود؟! بل قل: لقد مات المسيح ليقوم، وفى وادى الموت سأرفع تمثالاً للحب الإلهى رمز الحياة، وفى الربيع سأمشى والحُب جنباً إلى جنب مترنمين بين الزهور، وفى الصيف سأتكيء والحُب ساندين رأسينا على الأعشاب، ساهرين مع القمر والنجوم، وفى الخريف سأذهب أنا والحُب، متأملين أسراب الطيور المهاجرة، وفى الشتاء سأجلس والحب بقرب الموقد مرددين حكاية يسوع البار مع البشر، متأملين كيف أحبنا وبذل ذاته من أجلنا!
طعنة فى جنب المصلوب
أسلم مخلصنا روحه الطاهرة، لينقضِِ يوم الصلب العجوز متنهداً أنفاسه الأخيرة، فتوارى النور الضئيل، وغمرت الظلمة الأودية والأكواخ الحقيرة فى الفضاء الرمادى، فنشر الموت أجنحة السواد على الصليب، وانقطعت أصوات العصافير المغردة، وهتاف الطرب والسرور من سماء الجلجثة.
ها الحزن قد طلى جدران الطبيعة، فجفت دموع الفرح من سكانها، والحدائق التى حمل هواءها أنفاس يسوع وأسراره، خيّم عليها الحزن هى الأُخرى، فتنهّد النسيم بين الأغصان تنهّد يتيم بائس، وذرفت الأزهار قطرات الندى دمعاً ساخناً ثم أغمضت عينيها، وناحت جداول المياه وتوقفت عن المسير كأنّها أُم فقدت وحيدها، وأنشدت الطيور لحن الموت ثم نامت بين قضبان الأشجار الذابة، أمَّا الشمس فلمت أذيالها متألمة، والقمر ظهر شاحباً كميت ينتحب ولم يعط هو الآخر ضوءه!!
الطبيعة كلها قد راودها الحزن والنعاس، ولم يوجد فيها سوى دموع الشتاء وحزن الخريف! وساد صمت عجيب، بعد أن تفرق الجمع الذى كان محتشداً فى مكان الصلب، ولم يبقَ سوى الحراس الرومان ومعهم يوحنا الحبيب، الذي بعد أن أوى مريم أُم يسوع فى بيته حسب وصية سيده، لم يستطع أن يُقاوم الرغبة الشديدة فى العودة للجلجثة، حيث كان من تُحبّه نفسه، مُعلّقاً هناك على الصليب، وقد دون لنا هذا الشاهد الأمين ما قد رآه (يو35:19).
وكانت عادة سائدة في إسرائيل، تقضي برفع أجساد المذنبين من على الصلبان، ليُدفنوا قبل أن تغيب الشمس، وهذه العادة تستند إلى وصية إلهية تقول: " وَإِذَا كَانَ عَلى إِنْسَانٍ خَطِيَّةٌ حَقُّهَا المَوْتُ فَقُتِل وَعَلقْتَهُ عَلى خَشَبَةٍ فَلا تَبِتْ جُثَّتُهُ عَلى الخَشَبَةِ بَل تَدْفِنُهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ لأَنَّ المُعَلقَ مَلعُونٌ مِنَ اللهِ. فَلا تُنَجِّسْ أَرْضَكَ التِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيباًً " (تث23:22،21).
وهكذا نظروا إلى يسوع على أنَّه ملعون من الله!! ومرفوض من السماء والأرض!! ولكنهم لم يعرفوا أن أنَّه وهو على الصليب حمل اللعنة نيابة عنَّا، ولهذا يشبّه العلامة أوريجانوس اللعنة بدائرة لها بابان، الأول هو: كسر الوصية وقد دخل منه آدم وبنيه، لكن المسيح لم يكسر الوصية فدخل من الباب الثانى وهو: الصليب، فأصبح فى دائرة اللعنة مع البشر، إلاَّ أنَّ الدائرة لم تحتمله فتفجرت، وبهذا أصبحنا خارج دائرة اللعنة لأنَّ المسيح حملنا إلى السماء!
ويذهب اليهود إلى بيلاطس البنطيّ، ويطلبون منه أن تُكسر سيقان المذنبين الثلاثة كما اعتادوا ويُرفعون ليُدفنوا (يو31:19)، فيجيب بيلاطس طلبهم ويُرسل مجموعة من العسكر إلى ساحة الصلب، لكي يكسروا سيقان المذنبين ويتأكدوا أنَّهم قد ماتوا، وكان هذا يُعد عمل رحمة للمصلوبين لكي يعّجلوا بموتهم.
فكسروا سيقان اللصين المذنبين وبعد أن أتمّوا هذا العمل جاءوا إلى يسوع، وكانت الأدلة تُشير بوضوح إلى أنَّه قد مات، ولم تعد بعد حاجة إلى كسر ساقيه، خاصة وأنَّ واحداً من العسكر طعن جنبه بالحربة، الأمر الذى يكفي بمفرده أن يقضى على القدوس، حتى لو لم يكن قد فارق الحياة، فلمَّا طُعن بالحربة للوقت خرج من جنبه دم وماء!
وكأن بئراً جديدة انفتحت على الجلجثة لكـى تروينا بماء الحياة وتخلصنا بدم الفداء، وكما يقول القديس مارإفرآم السريانيّ: " لقد تدفق من الجنب الإلهيّ قوة سرية حطّمت الشيطان مثل داجون " (1صم1:5-5).
ويبدو أنَّ مُعلمنا يوحنَّا قد حرص على تدوين هذه الحادثة، لأنَّه يرى فى عدم كسر ساق المسيح وفى طعنه بالحربة فى جنبه تدخلاً إلهياً، تمت به نبوتان من العهد القديم فيقول: " لأَنَّ هَذَا كَانَ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: عَظْمٌ لاَ يُكْسَرُ مِنْهُ " (يو36:19)، وهذا قد ذُكر عن خروف الفصح الذى كان رمزاً للمسيح، فخروف الفصح كان ينبغي أن يكون ذَكَراً وبلا عيب، ليُشير إلى قداسة المسيح ولا يُكسر عظم منه إشارة إلى أنَّه سيُقدّم نفسه كفارة كاملة عن البشرية (خر12).
وفى طعنة الحربة يرى البشير إتمام نص كتابى أخير فيستطرد قائلاً: " وَأَيْضاً يَقُولُ كِتَابٌ آخَرُ: " سَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ الَّذِي طَعَنُوهُ " (يو37:19)، أمَّا الكتاب الآخر فهو سفر زكريا النبيّ الذى جاء فيه: " وَأُفِيضُ عَلَى بَيْتِ دَاوُدَ وَعَلَى سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ رُوحَ النِّعْمَةِ وَالتَّضَرُّعَاتِ فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ الَّذِي طَعَنُوهُ " (زك10:12) لقد طعنوا ابن الإنسان بحـربة ولكن من قبلهم قد طعنـه الدهر، عندما أفرغ سهام الألم فى صدره!
هذا وقد تأمل كثيرون من آباء الكنيسة القدامى فى خروج الماء والدم من جنب المصلوب البار فقال القديس كيرلس الأورشليميّ: " إنَّ المُخلّص إذ قد فدى العالم بالصلب، لمَّا طُعن فى جنبه أعطى الدم والماء، حتى إنَّ البعض فى أيام السلام يعتمدون بالماء، والآخرين فى أيام الاضطهاد يعتمدون بصبغة دمائهم، أي بدم موتهم ".
أمَّا القديس أُمبروسيوس فقد قال: " بعد الموت يتجمّد الماء فى أجسادنا، ولكن من الجسد الذي لا يفسد مع أنَّه ميت نبعت حياة للكل، الماء والدم اللذان خرجا منه، الماء للاغتسال والدم للفداء ".
الدفـن
مات المصلبون الثلاثة، وبعد أن أُنزلت جثتا المصلوبين الآخرين من على الخشبة وتم دفنهما، لم تبقَ سوى جثّة الفادى معلقة على الصليب بين السماء والأرض، وكانت لابد أن تُدفن ليتعطر سرير القبر النتن ويتبدد هوله، فالدفن يزيد الموت تأكيداً، وفى نفس الوقت يزيد قيامته مجداً. فما هى قصـة دفن أعظم جسد عاش على الأرض ؟
فى غروب يوم الجمعة وقد طافت أشباح الظلمة بين تلك المنازل فى أوشليم، انطرح يسوع عى سرير الألم، فانتصب الموت والحياة يتصارعان بجانب صليبه، ووقف الشعب ينظر إليه نظرة الأسير الذى يستحق الموت! وسكنت حركة عابرى الطريق، ولم يعد يُسمع سوى أنات وعويل نسوة قليلة، صراخ انفصال الحياة عن الحياة! لقد اسلم يسوع روحه الطاهر فأسرع رجل إلى قصر الوالى الرومانى، وتقدم إلى بيلاطس وطلب منه جسد يسوع لكى يكفنه، أما هذا الرجل فهو يوسف الذى من الرامة، التى تقع فوق جبل أفرايم.
ذُكر عنه فى الإنجيل أنَّه كان رجلاً غنياً وتلميذاً ليسوع المسيح (مت57:27) مُشيراً صالحاً ينتظر ملكوت الله (لو3 :50،51) وفى نفس الوقت عضواً فى مجمع اليهود المعروف بالسنهدريم.
وعلى ذلك فقد كان حاضراً بنفسه أثناء المحاكمة التى أُجريت ضد يسوع وعلى الرغم من أنَّه " لَمْ يَكُنْ مُوافِقاً لِرَأْيِهِمْ وَعَمَلِهِمْ " (لو51:23)، إلاَّ أنَّه لم يملك الشجاعة الكافية، لكى يحتج على أعمالهم وقراراتهم التي اتّخذوها ضد المتّهم البريء.
ولا نعلم إن كان يوسف حضر أحداث الصلب الدامية على الجلجثة أم لا، لكنّه رأى أن يكرمه عند موته ويدفنه باحتفال مهيب، مع أن هذا كان ممكناً أن يُسبب له متاعب كثيرة، فربَّما يُعزل من منصبه فى مجلس اليهود، وكان من الممكن أن تظن الحكومة أنّه شريك يسوع، وأيضاً سيُحرم من أكل الفصح لأنّه لمس جثّة إنسان ميت، هذا بالإضافة إلى العار الذى كان ممكناً أن يحل عليه لتبعيته ليسوع المصلوب، الذى أصبح الجميع ضده.
فلمَّا وافق بيلاطس البنطيّ وأمر أن يُعطى الجسد (مت58:27)، شعر يوسف وكأنَّه حصل على أثمن كنز ليشترى به أنقى كتان، يمكن الحصول عليه ليلف فيه جسد المصلوب! لأنَّه كان يؤمن أن يسوع الذي قُتل وها هو الآن يلف شبابه بالأكفان، وبهدوء سينام فى قلب الأرض الصامته، سوف ينهض بالروح ويخرج بجيوشه من الأرض التى تولد فيها الشمس، إلى الأرض التى تُقتل فيها الشمس والقمر معاً لأنَّه سيكون للمؤمنين شمساً وقمراً ونجوماً..
وقد ذكر مُعلّمنا يوحنا البشير أنَّ نيقوديموس قد جاء، ومعه مزيج مر وعود نحو مئة مناً، فأخذا جسد يسوع ولفاه بأكفان مع الأطياب، كما كان لليهود عادة أن يُكفّنوا (يو9: 39،40)، وهذا يعني أنَّ الاثنين اشتركا فى تكفين جسد المسيح علامة إيمانهما به وحبَّهما له.
أمَّا نيقوديموس هذا فهو زميل يوسف الرامى فى عضوية مجمع اليهود، وهو ذلك الفريسيّ الذى جاء إلى يسوع راغباً فى المعرفة وساعياً للخلاص، ولكن ليلاً!! لأنَّه هو أيضاً كان يخاف من اليهود رغم محبته للحق!! أمَّا الآن فقد حطّم قيود الخوف، لأنَّه من خلال السحب الرعدية التى اكتستْ بها سماء الجلجثة، فاضت نعمة غنية حوّلت الخوف إلى شجاعة والضعف إلى قوة! فلم يعد للجبن مكان فى قلب هذا أو ذاك!!
ولابد أن يوسف ونيقوديموس تكلما معاً ولو قليلاً، وتأملا فى منظر المصلوب، وعرّفا الحرس بالتصريح الذي حصلا عليه من بيلاطس وهو الخاص بأمر دفن يسوع، فلم يبقَ الآن سوى تشييع الجُثّمان.
وبالفعل فى موكب بلا مشيعيين ينزلان من فوق جبل الجلجثة يحملان جسد يسوع، وليس من نغمات حزينة ترافق الموكب الهادئ ولا كلمة تأبين، وعندما يصلان إلى البقعة الصخرية التى كان يوسف قد نحت فيها قبره الجديد، نجد أن المشهد لا تنقصه حاشية من المشيعيين، فقد كانت النساء المخلصات: مريم المجدلية ومريم الأُخرى.. يتبعنّهما عن بعد، لأنّهن كن يرغبن أن يعرفن الموضع الذى سيوضع فيه، من كان موضوع رجائهن ومحبتهن (مت27: 60،61).
ويرحّب يوسف ونيقوديموس بهن ترحيباً قلبياً، ويقبلان بسرور معاونتهما فى الدفن، ويوضع الجسد المقدس على الأرض برفق شديد, وتغسل النسوة بدموعهن أكثر مما بالماء الذى أحضرنه بقع الدماء من على رأسه وصدره، ويملأ الرجلان الكتان الأبيض النقى الذى سيُلف فيه الجسد بالمر والعود وبكثير من أثمن العطور التي أحضرا منها قدراً كبيراً (يو19: 39)، وبعد لف الجسد بلفائف الكتان كما جرت العادة عند اليهود، يلقون نظرة أخيرة على وجه الحبيب، ثم يغطونه بالمنديل الذى قد وجد بعد القيامة المجيدة ملفوفاً فى موضع وحده (يو7:20).
ومرّة أُخرى يرفع الصدّيقان جسد يسوع، ويحملانه برفق وخشوع إلى داخل القبر الجديد المنحوت فى الصخر، ليستريح بعد رحلة طويلة مع الآلام، ثم يضعون حجراً كبيراً على باب القبر . وقد كانت دحرجة الحجر الكبير على باب القبر هى نهاية مراسيم الجنازة.
ولابد أنَّهم وضعوا باقة من زهور حُبّهم فوق جسده الهامد، لتتكلم بذبولها وفنائها البطئ عن مصير النفوس، التى يقدّسها الحُب بين قوم أعماهم الحقد، وأخرسهم الجهل عن إعلان الحق..
وكم كان يوسف الراميّ سعيداً أن يُعد لسيده قبراً، فهو الرجل الغنى الذى قد تنبأ عنه إشعياء النبى قائلاً: " وَجُعلَ معَ الأَشرَارِ قَبرُهُ وَمعَ غَنيٍّ عِندَ مَوْتِهِ " (إش9:53) وكم كان يتمنى أن تعجّل ساعة موته، ليدخل قبره ويُدفن مع ذاك الذى تخلى عنه فى غير شجاعة وهو فى حياته .
إنَّ ما فعله يوسف ونيقوديموس هو أقل إكرام لأعظم جسد عاش على الأرض، لأنَّ الجسد الذى تقدّس باتحاد اللاهوت به، ما كان ممكناً أن تأكله الجوارح أو يُلقى فى وادى هنوم، لأنَّ الرومان اعتادوا أن يتركوا الجثث على الصليب تأكلها الجوارح، واليهود اعتادوا أن يطرحوها فى وادى هنوم حيث تُلقى عليها القمامة، وبين الحين والآخر تحرق بالنار، فجسد يسوع هو الجسد الذى تنبأ عنه معلمنا داود النبى قائلاً " لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ ولا تَدَعَ َقِدوسَّكَ يَرَى فَسَاداًً " (مز10:16).
لقد أظهر الصدّيقان أنَّ المحبة نحو المخلص لم ولن تنقرض أبداً، وفي عملهما توبيخ لأولئك الذين تبعوه منتفعين، فما أن حل به الضيق وظهر فى نظرهم ضعيفاً، تركوه وابتعدوا عنه! وكم كنا نتمنى أن اليد اليابسة التى شفاها تتقدم قبل أيدى يوسف ونيقوديموس، لكي تُخرج المسامير من يديه ورجليه! ولكن المنتفعين لا يظهرون وقت الشدة.
وكم كانت آلام أُم ربى قاسية عندما رأت ابنها الحبيب، الذي كان يجول في كل مكان يصنع خيراً.. وحيداً فى موته، لا يعترف بجميله سوى قلة قليلة، أليس هذا هو يسوع الذى رنمت الملائكة يوم مولده أنشودة السلام " الْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ " (لو14:2)، فلماذا لم تحضر الملائكة دفنه كما حضرت يوم ميلاده؟! لماذا لم يحضر المجوس الذين سجدوا له معترفين بألوهيته وملكه؟! أين الرعاة أول من بُشروا بميلاده ؟!
لقد صمتت السماء ولم ينزل منها أحد! والأرض اكتفت هى الأُخرى بدمائه التى ابتلعتها! ولكن حُب يسوع لا يقدر أحد أن يحتقره، ودمه لا يُزدرى به! ولا بد أن مريم قد ضمته إلى صدرها وخاطبته قائلة: لقد جئت لتدلنى على الطريق المؤدية إلى الحياة، فسر أمامى لنذهب من هذا الكهف المظلم إلى أنوار الحياة.
أما القبر الذى لا يشبع من عظام الموتى، لم يستطع أن يحمل جسد المسيح أكثر من ثلاثة أيام وقد قيل: إن التراب تعب من حمل جسد يسوع، لأن جسده ليس من تراب كباقى البشر.
وإن كان كل قبر يفتخر بما فيه من عظام، إلا أن قبر المسيح هو القبر الوحيد، الذى يفتخر بأنه خالٍٍ من جسده، وإن كانت أكثر القبور عزيزة علينا لِِما تحويه من أجساد الأقارب والأحباء، وكم نقف على قبور وقلوبنا ملتهبة نحو ما تضمه من أجساد الأعزاء، إلا أنه يوجد قبر واحد له مجد لا يفنى لكونه قبراً فارغاً هو قبر المسيح، الذى أمامه نشعر بالفرح والانتصار على الموت والشيطان والخطية.
قديماً كان الناس يرون القبر سجناً، مدخلاً لا خروج منه، لكن بعد موت المسيح ودفنه صار القبر جسراً، يعبر عليه أولاد الله من هذه الدار إلى الدار الأبدية، فإننا ندخل القبر هنا لنخرج منه بالقيامة إلى الحياة الأبدية، فالقبر الذى لم يستطع أن يضبط المسيح بين جدرانه المظلمة، لا يستطيع أن يضبط خرافه، وتلك القوة التى أقامت المسيح راعى الخراف الأعظم من الموت، ستقيم كل رعيته فى الوقت الذى حدده الله لقيامة البشر.
قال مار إفرآم السريانى:
"طوباك أيها القبر الفريد فإن النور الوحيد قد تجلى فيك، فى داخلك تنقى الموت المتعجرف لأن الحياة الذى مات دخل إليك، طوبى لأحشائك التى فيها سُد ذلك الفم الذى يبتلع الكل ولا يشبع" .
أيتها القبور
أنتِ التربة الخصبة التى عليها تُـلقى بذور الإنسان فتنطلق براعم الأبدية، البراعم الخضرة العطرة النقية، عند أعتابك ينتهى الزمن، وعلى أبوابك يصحو الفجر ذو العينين المنيرتين والأصابع الوردية.
أنتِ باب الأبدية، بداية الطريق إلى عالم النور والحق والحرية، على ترابك تسكن الآلام، وتكف الجراح عن الأنين، ويخرس الشك، وبين يديك يموت الضلال، وتسود الألفة بين الإنسان وسائر المخلوقات .
نظرت بين جدرانك فلم أرَ فقيراً، بل رأيت المساواة تسود بين البشر، ولم أرَ طبيباً إذ كل إنسان صار طبيب نفسه، ولم أرَ كاهناً لأن الضمير أصبح الكاهن الأعظم، ولم أرَ محامياً لأن طبيعة الحياة ألزمت الإنسان على عدم فعل الشر!
أيتها القبور
يا عيون الأبدية، يا كتاب التاريخ الحقيقى، الذى لا يمسه الزور من قرب أو من بعد ، يا سطور البداية والنهاية، يا أعظم لوحة، نصفها ظلام ونصفها نور، ألوانها مادية ونورانية، وملامحها زمنية وسماوية.
أيتها القبور
أسألك: هل رأيتِ أمير النور وهو يشق حجارتك الصماء ؟ أرأيت الفارس الإلهى الذى امتطى الزمن وهو يشعل النور فى الظلام، أرأيتِ شمس البر وهو يغسلك بأشعته الإلهية، ويسكب على ترابك دمه وعرقه وينفخ فى جدرانك أنفاسه الأزلية؟! قولى لنا بحق ماذا رأيتِ وماذا سمعت !!
تعترف لك ياسيدى كل الأفواه المسدودة التى فتحتها، والألسن التى ربطها الموت وحللتها.. يرتل لك كل الأبرار والصديقين بقيثاراتهم من داخل قبورهم، لأنك كسرت قيود الحديد وحطمت متاريس الهاوية.
كل جنس الأموات يمجدونك كثيراً، لأنك دست على الحية الخبيئة وضمدت الجروح بصليبك .
الآن فليأتِِ آدم إلى جنة عدن مسكنه الذى طُرد منّه، ولتأتِِ معه حواء، لأن يسوع عتقها من صك إبليس الذى أغواها.
غطس مخلصنا فى بحر الموت وصعد يحمل جوهرة الخلاص الثمينة، فلنفرح جميعاً بموته الذى أحيانا، ونمجد قبره لأن منه خرج الخلاص .
صلبـان قبـل الصـليب
كانت العادة عند الرومان أن يُجلد المذنب قبل أن يُصلب، وهذا ما حدث مع رب المجد يسوع، الذى بعدما فشل بيلاطس فى إطلاقه أطلق لهم باراباس " وَأَمَّا يَسُوعُ فَجَلَدَهُ وَأَسْلَمَهُ لِيُصْلَبَ " (مت26:27).
وكان الجلد يتم بتعرية المذنب من ثيابه، وربطه فى عمود، ثم ضربه بالسوط، الذى كان عبارة عن سيور من الجلد، وفيه عُقد مُثبّت فيها قطع من الرصاص أو الحديد أو العظام، وكان الجندي الرومانيّ يُعتبر فاشلاً، إذا كانت جلداته لا تترك جراحاً فى ظهر المجلود .
أما عدد الجلدات فكان (39) جلدة، فى حين أن القانونى (40) جلدة، هكذا جُلد القديس بولس الرسول من اليهود كما قال: " مِنَ الْيَهُودِ خَمْسَ مَرَّاتٍ قَبِلْتُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً إِلاَّ وَاحِدَةً " (2كو24:11)، والسبب فى ذلك هو خوفهم أن يسهو فى جلدة فتزيد الضربات عن (40)، وبهذا يكونون قد خالفوا أمر الشريعة، التى كانت تأمرهم ألا يزيدوا الضربات عن هذا العدد: " فَإِنْ كَانَ المُذْنِبُ مُسْتَوْجِبَ الضَّرْبِ يَطْرَحُهُ القَاضِي وَيَجْلِدُونَهُ أَمَامَهُ عَلى قَدَرِ ذَنْبِهِ بِالعَدَدِ أَرْبَعِينَ يَجْلِدُهُ، لا يَزِدْ لِئَلا إِذَا زَادَ فِي جَلدِهِ عَلى هَـذِهِ ضَرَبَاتٍ كَثِيرَةً يُحْتَقَرَ أَخُـوكَ فِي عَيْنَيْكَ " (تث25: 2،3) .
عن جلد المسيح تنبأ إشعياء النبيّ قائلاً " بَذَلْتُ ظَهْرِي لِلضَّارِبِينَ وَخَدَّيَّ لِلنَّاتِفِينَ " (إش6:50) وهكذا تنبأ المسيح عن جلد التلاميذ والمؤمنين " سَيُسْلِمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ وَفِي مَجَامِعِهِمْ يَجْلِدُونَكُمْ " (مت17:10).
وما جلد المؤمنين إلاَّ دخول فى شركة آلام السيد المسيح: " لأَعْرِفَهُ وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ مُتَشَبِّهاً بِمَوْتِهِ " (في10:3)، ولهذا مهما تفرّق المؤمنون، إلاَّ أنَّ عنصر الإنسانية سيظل يربط البشرية المتفرقة وأيضاً الألم، الذى صار محطة التقاء المؤمنين، كل المؤمنين، فالجميع عند الألم يلتقون! ليبقَ الألم سراً رهيباً صعب الفهم عسر التفسير!
وهى دليل على محبة الله " لأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ابْنٍ يَقْبَلُهُ " (عب12: 6)، ولهذا لمَّا جلد اليهود الرسل يقول الكتاب المقدّس: " وَأَمَّا هُمْ فَذَهَبُوا فَرِحِينَ مِنْ أَمَامِ الْمَجْمَعِ لأَنَّهُمْ حُسِبُوا مُسْتَأْهِلِينَ أَنْ يُهَانُوا مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ " (أع40:5،41).
لقد صارت جراحات المسيح، دواء شافياً لأمراضنا، مرهماً مداوياً لجراحتنا، كما قال مُعلَّمنا بطرس الرسول: " الَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ " (1بط24:2).
هذا عن المؤمنين، أمَّا الخطاة فليسوا فى حاجة إلى من يجلدهم، إذ هم يجلدون أنفسهم بسياط الخطية، فهناك من يجلد نفسه بسوط الزنى والنجاسة، كالسامرية والمرأة الخاطئة وأهل سدوم وعمورة، وآخر يجلد نفسه بسوط محبة المال، كالشاب الغنى والغنى الغبى ويهوذا، وثالث يجلد نفسه بسوط العظمة والكبرياء، مثل هيرودس الملك الذى من أجل قسمه أمام الجمع أرسل وقطع رأس يوحنا، وهناك من يجلد نفسه بسوط المسكرات وتعاطي المخدرات أو السرقة أو القتل..
وكما تسببت خطايا البشر فى ربط المسيح وجلده، هكذا أيضاً الخاطيء ليس أحد أقرب منه إلى الأسر والعبودية والمذلة، مهما حاول أن يتظاهر بالحريّة والبعد عن كل مذلة وعبودية .
التعـرية
فى منظر مؤلم وبكل قسوة ووحشيّة عُري الصالبون يسوع من ثيابه، ذاك الذى صنع ثوباً من جلد لكي يستر به عُري آدم، الذي لا يزال يكسو السماء بحلة بهية من الأنوار، والأرض برداء من الأزهار.
أمَّا هو فترك لباسه بفرح عظيم ليلبس أولئك الذين خرجوا من الفردوس عرايا، لقد رأى أن يلبسهم ثيابهم ويبقى هو عارياً، لأنَّه عرف أنَّها تصلُح لآدم المفضوح المُعرَّى من ثيابه، ومن عرتهم الخطية من لباس النعمة الإلهيّة، ولكن، أليست السماء هى التى قد نسجت ثوباً من آشعة القمر وألقته على جسد خالقها فى حياته، فلماذا الآن قد حاكت من ظلمة الليل رداءً كثيفاً مُبطّناً بأنفاس الموت لتستر به أضلع المسيح؟!
وهكذا يتعرى آدم الجديد من ثياب الأرض، قبل أن يرجع إلى ملكوت أبيه، ليتشح فقط بوشاح طهره، ويتسربل بسربال محبته !!
لقد عروه من ثيابه احتقاراً (مت28:27) ، دون أن يفهموا أنَّه تعرَّى لينزع عن أجسادنا ثياب الخطية، لكى نلبس عوضاً عنها ثياب البر والخلاص.. لم يدركوا أن رب المجد لمّا رأى الإنسان قد تعرى من ثياب التواضع نزل من السماء متجسداً، وتعرى من ثياب مجده ليكسوه بتواضعه، ولمّا رآه عرياناً من ثمار المحبة غطَّاه برداء الحُب الإلهيّ!!
ولكى يزيدوه احتقاراً ألبسوه ثوباً قرمزياً لأنَّه فى نظرهم ادّعى المُلك، فكان لابد أن يلبس ثياب الملوك، فألبسوه ثوباً لون الدم ليتزين به العريس المقتول، لكن المحزن أنَّهم عادوا فنزعوا عنه الرداء القرمزيّ وألبسوه ثيابه مرة أُخرى، فكان هذا إعلاناً على أنَّهم رفضوا أن يرتدوا ثوب الخلاص، مفضّلين ثوب الخطية التى أحبّوها وفضلوا ألاّ ينفصلوا عنها.
قال أحد الآباء:
" طرحت عني اللباس المرقّع الذى كنت ألبسه وغسلت جسدي من الدخان الذى كنت حامله، وألبستنى عوضاً عنه ثياب مجدك وطهارتك وبرك ".
إكليل الشوك
الشوك يرمز للخطية التى لولاها ما كانت الأرض قد لُعنت، ولا أنبتت شوكاً وحسكاً (تك17:3،18)، فكما أن الشوك سهل الاحتراق، وعندما يشتعل يحرق كل من يقترب منه، هكذا أيضاً الخطية، كل من يقترب منها يحترق بنارها، كما أنَّها تقود إلى النار الأبدية، أليست الخطية هى التي تسببت فى إحراق سدوم وعمورة بالنار والكبريت؟! (تك24:19).
وقد تحدّث سفر الرؤيا عن البحيرة المتقدة بالنار والكبريت، ووصف عقاب الخاطيء بأنَّه " سَيَشْرَبُ مِنْ خَمْرِ غَضَبِ الله " (رؤ10:14)، ويشرح كمثال لهذا العقاب عقوبة بابل الزانية فيقول: " وَسَيَبْكِي وَيَنُوحُ عَلَيْهَا مُلُوكُ الأَرْضِ، الَّذِينَ زَنُوا وَتَنَعَّمُوا مَعَهَا، حِينَمَا يَنْظُرُونَ دُخَانَ حَرِيقِهَا " (رؤ9:18) .
وكما أنَّ الشوك يؤلـم كل من يمسكه ويسبب له جروحاً بالغة، هكذا الخطية لا نجنى منها سوى الآلام والأحزان، وكما قال القديس أُغسطينوس: ما من سعادة يجنيها الإنسان من الخطية لأن آلامها تفوق أفراحها ".
وإن كانت الخطية تبدو لذيذة فى بدايتها لكن إلى حين، إذ سرعان ما تنقلب حلاوتها إلى مرارة، ويستطيع أن يتحقق من هذا كل خاطيء إذا سأل نفسه بعد كل خطية يسقط فيها: ماذا ربحت وماذا خسرت من خطيتي هذه؟ قد تربح لذة وقتية، أو تجني مالاً، أو تنال مركزاً.. لكنَّك ستخسر الله اللذة الحقيقية، الذي لذته تفوق كل لذة مهما كانت أرضية.
ولو تأملنا منظر الإكليل لرأينا أنَّه يأخذ شكلاً دائرياً، وهذا يُشير إلى أنَّ السيد المسيح قد رفع الخطية من دائرة العالم كله.
أمَّا كون الشوك أُخذ من الأرض التى لُعنت فهذا يعنى: إنَّ المسيح إنَّما جاء ليستأصل اللعنة القديمة وينزع جذور الخطية من الأرض .
" أتى ليقلع الأشواك من الأرض.. حمل لعنة الأرض بالإكليل الذى وضعوه على رأسه، الخطايا والذنوب والأوجاع والآلام والضربات.. ضُفرت بالإكليل ووضعت على رأسه لكي يحملها.. خلع بإكليله الزرع الملعون الذى للحية.. قطعوا بأيديهم الأشواك التى اضطرت أن تنقلع وصارت إكليلاً لابن الله وذلك لكي يزيلها ".
جاء المسيح وحمل شوك الخطية على رأسه لينقذنا من لعنتها، من الظاهر كان يحمل شوكاً على رأسه، أمَّا الداخل فكان يحمل خطايا ولعنات البشرية كلها، التى تجمّعت فى هذا الإكليل، وتراكمت على رأسه المقدس فى شكل أشواك.
وهكذا وضع الناس خطاياهم بأيديهم على رأس يسوع الذبيحـة الحقيقية، الذى جاء لُيذبح ويرفع خطايا العالم0
أرادوا أن يستهزئوا بملك الملوك فماذا فعلوا؟ ألبسوه تاجاً، لا من جواهر نفيسة أو معادن كريمة، بل من شوك، فصار كالوردة الجميلة المحاطة بأشواك الخطاة! وها نحن إلى الآن لا نمل من التطلع إلى جمال منظرها، أو تنسم عبير رائحتها.
وهكذا حوّل المسيح إكليل اللعنة والعار إلى إكليل المجد والبهاء، وضع إكليل شوك على رأسه، ليرد آدم إلى رتبته الأولى ممجداً ومتوجاً بإكليل النصرة والغلبة، وأيضاً ليُسقط تاج الشيطان الذى ملك على الخليقة!!
القصبة
القصبة تشير إلى المُلك والسلطان، فقديماً كان الملك يمسك فى يده قضيباً من ذهب يستخدمه فى إعلان رأيه، فقد جاء فى سفر أستير عن الملك أحشويروش:
" كُلَّ رَجُلٍ دَخَلَ أَوِ امْرَأَةٍ إِلَى الْمَلِكِ إِلَى الدَّارِ الدَّاخِلِيَّةِ وَلَمْ يُدْعَ فَشَرِيعَتُهُ وَاحِدَةٌ أَنْ يُقْتَلَ إِلاَّ الَّذِي يَمُدُّ لَهُ الْمَلِكُ قَضِيبَ الذَّهَبِ فَإِنَّهُ يَحْيَا " (أس4: 11)، " فَلَمَّا رَأَى الْمَلِكُ أَسْتِيرَ الْمَلِكَةَ وَاقِفَةً فِي الدَّارِ نَالَتْ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْهِ فَمَدَّ الْمَلِكُ لأَسْتِيرَ قَضِيبَ الذَّهَبِ الَّذِي بِيَدِهِ فَدَنَتْ أَسْتِيرُ وَلَمَسَتْ رَأْسَ الْقَضِيبِ " (أس5: 2).
فإن كانت القصبة ترمز إلى المُلك، فيكون وضعها فى يد المخلص (مت30:7)، إشارة إلى انتقال المُلك من أيدى اليهود إلى المسيح، وانتهاء مملكة اليهود لكي تبدأ مملكة المسيح فى الانتشار.
وقيل إن القصبة هى أفضل وسيلة لسحق رؤوس الحيات، وهذا يعني: إنَّ رب المجد قد جاء ليقتل الحية القديمة، التي هى إبليس ويشفينا من سُمها المميت، ولكى يعطينا سلطاناً أن نسحقها بأقدامنا، وتأكيـداً لهذا قال لتلاميذه بعد القيامة:
" وَهَذِهِ الآيَاتُ تَتْبَعُ الْمُؤْمِنِينَ يُخْرِجُونَ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِي وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ جَدِيدَةٍ يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ وَإِنْ شَرِبُوا شَيْئاًمُمِيتاً لاَيَضُرُّهُمْ وَيَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْمَرْضَى فَيَبْرَأُونَ " (مر16: 17،18) .
لقد أراد الأشرار أن يستهزئوا به، ظانين أن قصبته ومملكته ضعيفة ولا قيمة لها وسوف تزول سريعاً، لكنّهم أخطأوا لأنَّ كرسيّه إلى دهر الدهور وقضيب استقامة هو قضيب ملكه (مز45 :6).
الجثو أمامه
كانت العادة القديمة أن يجرى الناس أمام الملوك، ولهذا عندما طلب بنوا إسرائيل أن يكون لهم ملك كسائر الأمم، قال صموئيل النبيّ للشعب عن الملك الذى يريدونه " هَذَا يَكُونُ قَضَاءُ الْمَلِكِ الَّذِي يَمْلِكُ عَلَيْكُمْ: يَأْخُذُ بَنِيكُمْ وَيَجْعَلُهُمْ لِنَفْسِهِ, لِمَرَاكِبِهِ وَفُرْسَانِه فَيَرْكُضُونَ أَمَامَ مَرَاكِبِهِ " (1صم11:8)، وقيل عن أبشالوم ابن داود أنَّه " اتَّخَذَ مَرْكَبَةً وَخَيْلاً وَخَمْسِينَ رَجُلاً يَجْرُونَ قُدَّامَهُ " (2صم1:15).
أمَّا جثو العسكر أمام المسيح (مت29:27)، فكان إعلاناً عن رجوع الأمم الوثنية للمسيح، وسجودهم له عوضاً عن سجودهم للأوثان، وهذا السجود قد تحقق فى بيت لحم، عندما سجد المجوس للمسيح، وهو لا يزال طفلاً مضطجعاً فى مذود للبهائم وملفوفاً بخرق، يقول الكتاب: " وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ وَرَأَوُا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَباً وَلُبَاناً وَمُرّاً.
إن مجئ المجوس ـ وهم طغمة كهنوتية وعلماء فى الفلك ـ إلى بيت لحم وسجودهم لطفل، ليس هناك ما يدل على عظمته كسائر أولاد الملوك والأمراء، وتقديم الهدايا له يعنى:
البُصق واللطم واللكم
لم يكتفِ الأثمة بما سبق من عذابات وإهانات، بل وهم يجثون أمامه كان قوم منهم يستهزئون به قائلين: " السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ! وَبَصَقُوا عَلَيْهِ وَأَخَذُوا الْقَصَبَةَ وَضَرَبُوهُ عَلَى رَأْسِهِ " (مت30:27)، وهذه هى ثانى مرة يبصقون فى وجهه، وكانت الأولى فى دار رئيس الكهنة " حِينَئِذٍ بَصَقُوا فِي وَجْهِهِ وَلَكَمُوهُ وَآخَرُونَ لَطَمُوهُ قَائِلِينَ تَنَبَّأْ لَنَا أَيُّهَا الْمَسِيحُ مَنْ ضَرَبَكَ؟" (مت27:26، 68) .
ويُعد البُصق من أشد أنواع التحقير، إذ يرى المرء أنَّ الوجه الذى يُبصق فيه، أكثر ازدراء من الأرض التى يبُصق عليها، وقد شكا أيوب من هذا التحقير: " أَوْقَفَنِي مَثَلا ًلِلشُّعُوبِ وَصِرْتُ لِلْبَصْقِ فِي الْوَجْهِ " (أي6:17).
ولمَّا كانت مريم أخت موسى النبى برصاء، أُعتُبر ذلك عـاراً لها، كأنَّ أبوها قـد بصق فى وجهها (عد14:12)، وكان من يرفض أن يُقيم نسلاً لأخيه المتوفي، يُعاقب بهذا النوع من التحقير فتتقدم " امْرَأَةُ أَخِيهِ إِليْهِ أَمَامَ أَعْيُنِ الشُّيُوخِ وَتَخْلعُ نَعْلهُ مِنْ رِجْلِهِ وَتَبْصُقُ فِي وَجْهِهِ وَتَقُولُ: هَكَذَا يُفْعَلُ بِالرَّجُلِ الذِي لا يَبْنِي بَيْتَ أَخِيهِ " (تث9:25).
لقد بصقوا فى وجه ذاك الذى بتفلته قد فتح عيني المولود أعمى (يو9)! الوجه الذى أضاء كالشمس على جبل التجلى (مت17: 2) ها هو ملطخ ببُصاق الأشرار! هذا الوجه الذى هو أبرع جمالاً من كل وجوه بنى البشر(مز45 : 2) والذى كان أبيض وأحمر كما وصفته عروس النشيد (نش5: 10) أهانه بهذه الطريقة أحط البشر.. أما هو فقد قبل بُصاق الخطاة على وجهه.. لكى لا تمتلئ وجوهنا بالخزى والازدراء الأبدى..
قال مار يعقوب السروجى:
" ذاك الجاهل كيف تجاسر وتفل فى وجهه ؟ كيف تجاسرت أيها اللسان أن تنضح بالبصاق ؟ كيف احتملتِ أيتها الأرض هزأ الابن؟ منظر مملوء دهشة أن يرى الإنسان الشمع يتفل فى وجه اللهيب.. وهذه أيضاً من أجل آدم حدثت لأنه كان مستحقاً البصاق لأنه زل، وعوض العبد قام السيد يقبل هذا كله !! "
وكما استهزأ الفلسطينيون وسخروا بشمشون، فعل الأشرار بالمسيح، إذ كانوا يضربونه ويطلبون منه أن يتنبأ عمن ضربه (مت26 : 68) (قض6 : 21-25).
ألم تفتح السماء أبوابها اللؤلؤية، لينزل القدوس إلى العالم الساقط، ليقدسهم ويرفعهم إلى الله قرباناً مقدساً! ألم يأتِ المسيح، ليحقق حلم يعقوب عن السلم الذى يربط بين السماء والأرض ! فلماذا ضربوه ؟ هل لأنه تجّول بينهم مشرقاً بنوره على الذين يتعثرون فى الظلمة ؟ أم لأنه ملأ أكواخ المساكين بالبركات، داعياً المتعبين والثقيلى الأحمال أن يأتوا ليريجهم ؟