مرحباً بكم في مدونة نيافة الحبر الجليل الأنبا مرقس أسقف شبرا الخيمة وتوابعها وهى تشمل عظاته ومحاضراته التي يلقيها على طلبة الكلية الإكليريكية وصوره وأعماله في الإيبارشية وموضوعات أخرى

الأربعاء، 20 أكتوبر 2010

على جبل التجلى


علي جبل التجلي ، وقف ثلاثة يضيئون بنور مجيد وكانوا ثلاثتهم ممن أتقنوا الصوم … إذ صام كل منهم أربعين يوماً وأربعين ليلة إنهم : السيد المسيح له المجد ( متي 4: 2) ، وموسي ( خر 40 : 28 )، وإيليا ( 1 مل 19: 8) ،فهل يختفي وراء هذا المنظر البهي معني هام : وهو انه بقهر الجسد في الصوم ، تتجلي الروح ، ويتجلي الجسد ؟ هل اختار السيد المسيح معه في التجلي إثنين من الصوامين ، ليرينا أن الطبيعة التي ستتجلي في الأبدية ، هي التي قهرت الجسد بالصوم ؟ تري ماذا قيل عن الصوم أيضاً ؟ لقد قيل :

الصوم هو أقدم وصية عرفتها البشرية ، فقد كانت الوصية التي أعطاها الله لأبينا آدم ، هي أن يمتنع عن الأكل من صنف معين بالذات ، من شجرة معينة ( تك 2: 16، 17) ، بينما يمكن أن يأكل من باقي الأصناف .

وبهذا وضع الله حدوداً للجسد لا يتعداها .
فهو ليس مطلق الحرية ، يأخذ من كل ما يراه ، ومن كل ما يهواه … بل هناك ما يجب أن يمتنع عنه ، أي أن يضبط إرادته من جهته . وهكذا كان علي الإنسان منذ البدء أن يضبط جسده . فقد تكون الشجرة " جيدة للكل ، وبهجة للعيون ، وشهية للنظر "( تك 3: 60) . ومع ذلك يجب الإمتناع عنها . وبالإمتناع عن الأكل ، يرتفع الإنسان فوق مستوي والجسد ، ويرتفع أيضاً فوق مستوي المادة ، وهذه هي حكمة الصوم.

ولو نجح الإنسان الأول في هذا الاختبار ، وانتصر علي رغبة جسده في الكل ، وانتصر علي حواس جسده التي رات الشجرة فإذا هي شهية للنظر … لو نجح في تلك التجربة ، لكان ذلك برهاناً علي أن روحه قد غلبت شهوات جسده ، وحينئذ كان يستحق أن يأكل من شجرة الحياة …


ولكنه انهزم أمام الجسد ، فأخذ الجسد سلطانا عليه .
وظل الإنسان يقع في خطايا عديدة من خطايا الجسد ، واحدة تلو الأخري ، حتى أصبحت دينونة له أن يسلك حسب الجسد وليس حسب الروح ( رو 8: 1) .

وجاء السيد المسيح ، ليرد الإنسان إلي رتبته الولي .
ولما كان الإنسان الأول قد سقط في خطية الكل من ثمرة محرمة خاضعاً لجسده ، لذلك بدا المسيح تجاربه بالإنتصار في هذه النقطة بالذات ، بالانتصار علي الكل عموماً حتي المحلل منه . بدأ المسيح خدمته بالصوم ، ورفض إغراء الشيطان بالكل لحياة الجسد ، أظهر له السيد المسيح ان الإنسان ليس مجرد جسد ، ، إنما فيه عنصر آخر هو الروح . وطعام الروح هو كل كلمة تخرج من فم الله ، فقال له :
" ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ، بل بكل كلمة تخرج من فم الله " ( متي 4:4) .
ولم تكن هذه قاعدة روحية جديدة ، أتي بها العهد الجديد ، إنما كانت وصية قديمة أعطيت للإنسان في اول شريعة مكتوبة ( تث 8: 3) . وقد قيل عن حنه النبية إنها كانت " لاتفارق الهيكل عابده بأصوام وطلبات "( لو 2: 37)
وصام الرسل
في العهد الجديد ، كما صام المسيح ، صار رسله أيضاً ..
وقد قال السيد المسيح في ذلك " حينما يرفع عنهم العريس حينئذ يصومون " ( متي 9: 15) … وقد صاموا فعلاً . وهكذا كان صوم الرسل أقدم وأول صوم صامته الكنيسة المسيحية . وقيل عن بطرس الرسول إنه كان صائماً حتى جاع كثيراً واشتهي ان يأكل ( أع 10: 10) فظهرت له الرؤيا الخاصة بقبول الأمم . وهكذا كان إعلان قبول الأمم في أثناء الصوم . وليس الرسل كان يخدم الرب " في اتعاب في أسهار في أصوام "( 2 كو 6: 5) ، بل قيل عنه " في أصوام مراراً كثيرة " ( 2 كو 11: 27 ) . وقيل إنه صام ومعه برنابا ( اع 14: 23) .

وفي أثناء صوم الرسل ظن كلمهم الروح القدس …
إذ يقول الكتاب " وفيما هم يخدمون الرب ويصومون ، قال الروح القدس : إفرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه . فصاموا حينئذ وصلوا ووضعوا عليهما اليادي "( أع 13: 2، 3) . وما اجمل ما قاله الرب للرسل عن الصوم وعلاقته بإخراج الشياطين :
" هذا الجنس لا يخرج بشئ ، إلا بالصلاة و الصوم " ( مت 17: 21) . إلي هذه الدرجة بلغت قوة الصوم في إرعاب الشياطين . وبم يكن الصوم قاصراً علي الأفراد ، إنما كان الشعب كله يصوم …
صوم الشعب كلةويدخل في العبادة الجماعية ( وهو غير الصوام الخاصة ).

فيه تجتمع كل قلوب الشعب معاً ، في تذلل امام الله . وكما اعتاد الناس أن يصلوا معاً واحدة ، وبنفس واحدة ، في صلاة جماعية يقدمونها لله ( أع 4: 24) ، وهذه غير الصلوات الخاصة التي في المخدع المغلق ، كذلك في الصوم :
هناك أصوام ، لها أمثلة كثيرة في الكتاب المقدس :

يشترك فيها جميع المؤمنين معاً ، بروح واحدة ، يقدمون صوماً واحداً لله . إنه صوم للكنيسة كلها … ولعل أبرز مثال له الصوم الذي صامه كل الشعب لما وقع في ضيقة أيام الملكة أستير حتي يصنع الرب رحمة ( إس 4: 3، 16) . وصام الجميع بالمسوح و الرماد والبكاء ، وسمع الرب لهم وأنقذهم . وكما صام الشعب كله بنداء عزرا الكاهن علي نهر أهوا متذللين أمام الرب ( عز 8: 21، 23) ، كذلك إجتمعوا كلهم بالصوم مع نحميا وعليهم

مسوح وتراب ( نج 9: 1) . وكذلك صام الشعب أيام يهوشافاط ( 2 أي 20: 3) . ويحدثنا سفر أرمياء النبي عن صوم الشعب في أيام يهوياقيم بن يوشيا ( أر 36: 9) . وصوم آخر جماعي في أيام يوئيل النبي ( يوئيل 3: 5) . ومن الأصوام الجماعية أيضاً :" صوم الشهر الرابع ، وصوم الخامس ،وصوم الخامس ، وصوم السابع ، وصوم العاشر "( زك 8: 19) .
والصوم معروف في كل ديانة .

وقد صام الأمم …
ولعل أبرز مثال له صيام أهل نينوي ( يون 3) . وكيف أن الله قبل صومهم ، وغفرلهم خطاياهم . وكذلك كرنيليوس قائد المائة ( أع 10: 30)) . وكيف قبل الله صومه ، وارسل إليه بطرس الرسول الذي وعظه وعمده . ويحدثنا العهد القديم عن صوم داريوس الملك أثناء تجربة دانيال النبي، وكيف " بات صائماً ، ولم يؤت قدامه بسراريه " ( دا 6: 18) .
الصوم معروف في كل ديانة ، حتى الديانات الوثنية و البدائية . مما هلي أنه معروف منذ القدم قبل أن يفترق الناس .

والذي يقرأ عن البوذية و البراهمية و الكنفوشيوسية ، وعن اليوجا أيضاً ،يري أمثلة قوية عن الصوم ، وعن قهر الجسد لكي تأخذ الروح مجالها . والصوم عندهم تدريب للجسد وللروح أيضاً . وفي حياة المهاتما غاندي الزعيم الروحي الشهير للهند ، نري الصوم من أبرز الممارسات الواضحة في حياته . وكثيراً ما كان يواجه به المشاكل . وقد صام مرة حتي قال الأطباء عن دمه بدأ يتحلل …

وبالصوم اكتشف اليوجا بعض طاقات الروح …
هذه الطاقة الروحية التي كانت محتجبة وراء الاهتمام بالجسد وقد عاقها الجسد عن الظهور ولم يكتشفوها إلا بالصوم … ويري الهندوس أن غاية ما يصلون إليه هو حاله ( النرفانا ) أي انطلاق الروح من الجسد للإتحاد بالله ، لا يمكن أن يدركوها إلا بالنسك الشديد والزهد و الصوم … وهكذا نجد أنه حتى الروح البعيده عن عمل الروح القدس ، التي هي مجرد روح تنطلق من رغبات الجسد ومن سيطرته بالتداريب ، تكون روحاً قوية ، تصل إلي بعض طاقاتها الطبيعية ، فكم بالحري التي إلي جوار هذه القوة الطبيعية تكون مشتركة مع روح الله …؟

الصوم هبة
وإن عرفنا فوائد الصوم ، نجد أنه هبة من الله .
نعم ، ليس الصوم مجرد وصية من الله إنما هو هبة إلهية . إنه هبة ونعمة وبركة … إن الله الذي خلقنا من جسد ومن روح ، إذ يعرف أننا محتاجون إلي الصوم ، وان الصوم يلزم حياتنا الروحية لأجل منفعتها ولأجل نمونا الروحي وأبدتنا لذلك منحنا ان نعرف الصوم ونمارسه . وأوصانا به كأب حنون وكمعلم حكيم .