مرحباً بكم في مدونة نيافة الحبر الجليل الأنبا مرقس أسقف شبرا الخيمة وتوابعها وهى تشمل عظاته ومحاضراته التي يلقيها على طلبة الكلية الإكليريكية وصوره وأعماله في الإيبارشية وموضوعات أخرى

الثلاثاء، 30 مارس 2010

دموع فى البستان




حديث الطريق


فرغ المسيح من العشاء المُقدّس، وبعد أن سبّح مع تلاميذه، وخفقت قلوبهم كالعصافير، غادر عليّة صهيون (مت26:30)، وها هو يعبر معهم وادى قدرون (يو1:18) الذي عبره من قبل داود الملك وهو يسير حافي القدمين، مُغطّى بمسوح ووجه منكساً، هارباً من بطش ابنه أبشالوم بسبب خطيته، التي أهان وجرح بها نفسه وأغضب الله (2صم30:15).

ويسير مُخلّصنا فى سكون الليل وظلامه، وأخيلة الأشجار تتحرك أمامه، كأنّها أشباح انبثقت من شقوق الأرض لتُخيفه، وأشعه القمر الضعيفة ترتعش بين الغصون، كما لو كانت سهام شيطانية تتجه نحو صدره لتُميته! يُرافقه تلاميذه وهم فى تأثر عميق لِِِما جرى فى العُليّة، وإعلانه المؤلم عن مُسلّمه.

وفي أثناء السير قال لهم: " كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ : أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ خِرَافُ الرَّعِيَّةِ " (مت31:26)، فمنذ فترة وجيزة كشف لهم عن خيانة تلميذه يهوذا خائن واحد إلاَّ أنَّ الجميع سيهجرونه، ستتبدد خراف الرعيّة لأنَّ راعى الخراف قد ضُرب ثم يعطيهم فكرة عن لقاء سعيد يلتقون فيه مّرة أُخرى عقب هذه العاصفـة فيقول : " وَلَكِنْ بَعْدَ قِيَـامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ " (مت32:26).

فهناك لن تكون كأس ألم يتجرعها ولا أتباعه يشكّون فيه، سيتقابل معهم مُمجداً وعلى رأسه تيجان كثيرة.. بعد أن اكتنفه الحزن طويلاً، فقد كان لابد أن يقوم ليغسل ما لحق به من إهانات وتعييرات وعذابات من اليهود والرومان، أولئك الذين شاطت عقولهم وصلبوه حسداً، وظنوا أنَّ القش يمكن أن يقف أمام اللهيب، فقام الجبَّار وازدرى بهملأنَّ الغبار لا يقدر أن يقف أمام الريح!

ويصر بطرس الرسول على أنَّه سيحتفظ بأمانته مهما حدث إذ قال وَإِنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَداً (مت33:26)، لا أجحدك فأنا مستعد لأمضى معك، إن بذلت ذاتك للموت ها أنا معك، وإن اخترت الصعود للصليب أصعد معك، فالموت معك ربح لى لأنه سيقودنى إلى الحياة الدائمة.. لكن يسوع بكل صراحة يُعلن أنَّه سوف يُنكره سريعاً " إِنَّكَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ دِيكٌ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ "(مت26: 34).

ويعود بطرس يؤكد أمانته، مع التلاميذ ولكن دون جدوى، لأنَّ الجميع تركوه ساعة الصلب وحده وهربوا كل واحد إلى خاصته، وقد لبثت أُمه واقفة بجانب الجثّة الهامدة كأنّها تحرس طفلها!هربت الخراف وبقى الراعى وحده يحيط به الذئاب الخاطفة! لأنَّ الظلمة لا تعانق النور فهناك عداوة قديمة بينهما! كما أن الشيخوخة الذابلة لا تستأنس بالشباب الغض، شأنها شأن الصباح لا يلتقي بالمساء إلاَّ ليبدده!ويدخل رب المجد بستان جثسيماني، على ممر بين أشجار الزيتون لا ليحيا فيه متنعماً كآدم فى جنَّة عدن، بل متألماً! ف

فى هذا المكان جمعه الربيع فى قبضة الحُب، حيث كان يقضي أيامه في الصلاة، وفى نفس المكان جمعه خريف الأشرار المُلبّد بالزوابع أمام عرش الموت!

معصرة الزيت

تقع جثسيمانى على سفح جبل الزيتون، ومعناها معصرة الزيت، لأنَّهم كانوا يُحضرون الزيتون من أشجاره، التي تنمو هناك فى الحدائق المجاورة لتُعصر ويُستخرج منها الزيت.. وفـى المعصرة انداس المسيح وحده (إش3:63)، وقد سُر الله أن يسحقه لكى يخرج منه زيت جديد لكل من يؤمن به، لنشترك فى أصـل الزيتونة الجديدة ودسمها (رو11:17).

هناك كانت تنمو أشجار الزيتون، والمسيح قد جاء إلى جثسيمانى، لكي يغرس الزيتون الصغير بقوته الإلهية فهو الزارع السماويّ وكل غرس يغرسه فى الحقل الإلهيّ يُعلن " أمَّا أَنَا فَمِثْلُ زَيْتُونَةٍ خَضْرَاءَ فِي بَيْتِ اللهِكان يرمز إلى الألـم لمرارته، إلاَّ أنَّه يرمز أيضاً إلى السلام، فالحمامة التى أرسلها نوح من الفُلك، عندما غطّت مياه الطوفان الأرض، عادت إليه وهى تحمل غصن زيتون أخضر فى فمها، فعلم نوح أنَّ المياه قلّت عن الأرض (تك8: 11)، فكان ذلك إشارة لحلول سلام الله على الأرض، ومنذ ذلك الوقت قد صار غصن الزيتون شعار السلام بين البشر، وشجرة الزيتون علامة تشير إلى النجاح والبركة الإلهية (مز52: 8) (هو14: 6).

وهذا يعنى: إننا لن نحيا فى سلام إلاَّ من خلال آلام المسيح، فعن طريق الآلام تم الفداء، ومن ثمار الفداء عودة السلام إلى الأرض مرة ثانية بعد أن سادها الرعب سنينَ طويلة، أتتذكرون يوم ميلاده عندما شق الملائكة ببهائهم ظلام الليل، فحوَّلوا الأرض سماء وملأوا الكون بذبذباتهم الروحية، وعزفوا على قيثارات الحُب تسبيح المجد والسلام والفرح " لْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُقمة الألم ما أن وصل يسوع إلى باب البستان حتى قال لتلاميذه: جْلِسُوا هَهُنَا حَتَّى أَمْضِيَ وَأُصَلِّيَ هُنَاكَ " (مت36:26).

ويجلس التلاميذ عند مدخل البستان طاعة لأمر مُعلّمهم، بينما يصطحب المُعلّم بطرس ويوحنا ويعقوب ويتقدمهم إلى داخل البستان، ويلقى بنفسه بين يدي الآب فى تضرع ولجاجة.. ولا تزال كأس الأهوال لم تعبر عن المخلص الغارق فى الألم، بل تزداد مرارتها لحظة بعد الأُخرى.
ويزداد الصراع وتعلو الزفرات.. وهل يستطيع الجالس على أجنحة الموت، أن يستحضر تغريد البلبل وهمس الزهور وحفيف الغصون؟! أيقدر الأسير المثقّل بالقيود والهموم أن يُلاحق هبوب نسمات الفجر؟وتصل الآلام النفسية إلى قمتها، وقد عبّر مُعلّمنا متى البشير عن هذه الآلام بعبارة " وَابْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ.. نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى الْمَوْتِ (مت37:26،38).


لابد أنَّه رأى كل خطايا البشرية أمام عينيه، رأى سقوط آدم وطرده من الجنَّة، وقايين الذي قام على أخيه هابيل وقتله حسداً وغدراً، وشر العالم الذى كثُر أيام نوح فاغرقهم بماء الطوفان، والفساد الذى عاش فيه أهل سدوم وعمورة فأحرقهم بالنار والكبريت.. وكان يعلم أنَّه بعد ساعات سيُعرى من الأشرار ويُجلد ويُتفل على وجهه ويُكلل بالشوك ويُسمّرعلى الصليب.. فهذه كلها أحداث تركت أثراً عميقاً فى نفس البار!



وكلمة يكتئب تعبّر عن الحزن، الذى يجعل الإنسان غير صالح للاختلاط بالناس أو غير راغب فيه.ويعطينا مُعلّمنا مرقس بوصفه الدقيق لتفاصيل المشهد الرهيب، فكرة أوضح عن الحزن الذى قد جاء علـى المسيح فى قوله " وَابْتَدَأَ يَدْهَشُ وَيَكْتَئِبُ " (مر33:14)، وكلمة يدهش فى الأصل تتضمن رعباً مُفاجئاً، بسبب شئ مُخيف، فالبشير يريد أن يُعلن أن فزع يسوع، كان بسبب مناظر من الخارج اقتحمته وكانت تنذر بتمزيق أعصابه.

حقيقة إنَّ الشهداء تألَّموا وماتوا لأجل المسيح، لكنَّهم لم يحزنوا كمخلصنا، لأنَّه على صليب القديسين ينطق الرب بالتطويب، الأمر الذي يجعلهم يفرحون أثناء حمل الصليب (مت10:5-12) أمَّا صليب المسيح فكان يقترن باللعنة " مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ" (غل13:3) الأمر الذى يجعله يحزن ويكتئب!

مدرسة الصلاة

بعد أن أعلم المسيح تلاميذه أن نفسه حزينة حتى الموت، ابتعد عنهم نحو رمية حجر ثم جثا على ركبتيه وخر على وجهه، وكانت تصعد أنات من نفسه المثقّلة بالحزن الشديد " يَا أَبَتَاهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ وَلَكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتكَ" (لو41:22،42) وهكذا خر أيوب على الأرض وهو فى شدة الألم (أى20:1)، فالتمرغ فى التراب يُعبّر عن شدة الألم، كما يُعبّر عن التواضع والانسحاق.

وفى هذا الجو المظلم نراه يدعو الله " أبتاه " ! فمهما تكاثفت السحب، وهاجت العاصفة، وأظلم الليل.. فإنَّه يستطيع أن يرى من خلالها الله أباً، وما أجمل ما يقول المؤمن " يا أبتاه " فى أوقات التجارب، لأنَّه لمن يذهب الطفل عندما يشعر بالضيقة إلاّ إلى أبيه!وعلى الرغم من شدة آلامه إلاَّ أنّه عبّر عنها بالكأس!


سقط آدم بزلته فكان إليه صوت الرب " بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزاً " (تك3: 19)، ومع أنه عـرق مرات إلاَّ أنَّه لم يُشف، وفى هذا يقول مار يعقوب السروجى: " وعرق أثناء الصلاة فشفى آدم من العذاب، بعرق الرب صارت الصحة للمريض، نظر آدم عرق ربوات ولم يُشف لأجل الخطية الممزوجة به، فبغير خطية عرق مُخلّصنا دفعة واحدة وكانت نتيجتها تخليص آدم من الموت ".

يقول مار إفرآم السريانيّ:
" طوباك أيها المكان الذى تأهلت لأنْ يسقط فيك عرق الابن، إنَّ الابن بارك الأرض بعرقه ليُبطل عرق آدم الذى حل عليها، طوبى للأرض التى طيّبها بعرقه والتى كانت مريضة فشف

ومن هذا نتعلَّم أنَّ التخفيف من شدة الألم وقت الضيق وأنَّ شرب الكأس المرَّة التى يضعها الله فى أيدينا، مهما اشتدت مرارتها بشكر أفضل وسيلة للخروج من الضيقة.كما أعطانا المسيح بصلاته أعظم درس ألا وهو: إنَّ الصلاة هى أعظم سلاح نستطيع أن نُحارب به، ففى جثسيمانى صار الألم كزلزال حبلت به الأرض فتمخضت متوجعة تريد أن تلد الخراب والشقاء! ولكنّها على غير عادتها لم تلد سوى الخلاص! فهل من سبيل للخلاص من المحن والشدائد غير الصلاة ؟ لقد صار المسيح للمؤمنين كالمرآة ينظرون فيها ويتعلمون!
عرق المحبة

كان يسوع يصلى بلجاجة، فتراءت له البشرية فى لحظة خاطفة فى جميع عصورها، تجرجر فى خزى إجرامها وقبح معاصيها! وطفقت جميع الخطايا تخرج من خفايا الزوايا وشقوق الضمائر، تفح كالأفاعى لتنفث سمها وتفرغ خبثها فى الحمل الوديع، قبل أن يقضى عليها ليمحوها! لقد هاله المنظر فصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض (لو22: 44)، فقدست هذه القطرات الطاهرة والمُطهّرة الأرض وباركت تربت
اها لأنَّه نضح عرقاً عليها ".

الجسد كله يبكى لا العينان فقط

أما الذي جعل عرق يسوع يتصبب هكذا كقطرات الدم، وجسده كله يبكي عوض الد موع دماً هو المحبّة، فإن أشارت المحبّة إليكم فاتبعوها وإن كانت مسالكها صعبة! وإذا ضمتكم بجناحيها فأطيعوها وإن جرحكم السيف المستور بين ريشها! وإذا خاطبتكم المحبّة فصدقوها وإن عطّل صوتها أحلامكم!


لقد بكى كل عضو من أعضاء المسيح حزناً على فساد أعضائنا التى دنّستها الخطية، فها هى عيناه تبكيان عوض أعيننا التى تلوثت برؤية المناظر القبيحة، وأذناه تبكي عوض أذاننا التى تدنست بسماع كلام النميمة.. ويداه ورجلاه وفمه... الأعضاء كلها تبكى والعجيب أنها لا تبكى ماءً بل دماً، لأنَّه كما قال القديس بولس الرسـول : " بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ "..


نوم التلاميذ

صلى مُخلّصنا ثلاث دفعات، وبينما كان يصارع مع الموت فى جهاد لا يوصف، كان التلاميذ نياماً وقد غلب عليهم النعاس، ويوقظهم المُعلّم أكثر من مرّة لكي يسهروا معه ولو قليلاً ولكن دون جدوى! فأصبحوا أمامه كتاباً قرأ سطوره، وفسر آياته، وأخيراً عندما صل إلى نهايته إذا بعبارة " الضعف البشريّ " !

لقد ناداهم فلم يقوموا من رقادهم، بل ظلوا يسيرون فى مواكب الأحلام! طلب منهم أن يصعدوا إلى قمة الجبل ليروا ممالك العالم فرفضوا، مفضلين أعماق الوادى حيث عاش أباؤهم، وفى ظلاله ماتوا ودفنوا فى كهوفه! ولكن لا عجب فقد مضت الأيام المفعمة بأنفاس الربيع وابتساماته المُحيية، وجاء الشتاء باكياً، منتحباً، لكى يبقى يسوع وحده، فالحمل الوديع قد جُرح ولابد أن يبتعد عن سربه ويتوارى حتى الموت!

لما بكى داود على جبل الزيتون أثناء هروبه من وجه أبشالوم ابنه، بكى معه جميع أتباعه (2صم30:15)، أمَّا يسوع ابن داود عندما تحول عرقه إلى دم على نفس الجبل، كان تلاميذه الذين يجب عليهم أن يسهروا ويبكوا معه كانوا نياماً نياماً، فى حين أنَّ أعداءه الذين يترقبون خُطاه قـد كانوا فى يقظة كامــلة (مر14: 43)! ألم يعرفوا أن فى إناءه يمتزج الحلو والمر؟! ألم يدركوا أن قربهم منه يجعلهم يعيشون بين النور والنار؟!

كان يجب أن يجمعوا كل قواهم الروحية، حتى لا يخوروا أمام التجربة، ويتعرّضوا للشك والإنكار ثم الارتداد، خاصة وأن رئيس هذا العالم قد استعد بسلاحه وبكل قواته، لكنهم تثقلوا من الحزن الذى صفعهم، ولم يعد فيهم قوة ليتقدموا إلى الطلبة والتضرع. أما الدافع الذى جعل الرب يسوع يوقظ تلاميذه هكذا، ليس شعوره بالحاجة إلى من يواسيه بسبب نفسه المتألمة، بل كان أيضاً عطفه الشديد عليهم، إذ كانوا مثله تُحيط بهم قوات الظلمة، وقد حانت الساعة التى أشار عنها " هَذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ الظُّلْمَة " (لو53:22).

ولسنا نعلم إذا كانوا قد سهروا فما الذى كان ممكناً أن يقولوه فى صلاتهم؟! إن قالوا لا يجب أن يموت البار من أجل الأثمة فلن يسمع لهم الله! وإن قالوا فليمت الابن لتحيا البشـرية بموته فهذه جسارة عظيمة!! لأنَّه من يستطيع أن يقول للآب يُصلب ابنك أو لا يُصلب!
وقد كان هذا الصمت أفضل لهم!

الثلاثاء، 23 مارس 2010

سعى اللة لخلاصنا




قد يفقد الإنسان رجاءه في الخلاص ، لأن أعداءه قد اعتزوا أكثر منه ، ولا قدرة له علي مقاومتهم ، سواء في ذلك أكانوا أعداءه الروحيين ، أو مضايقيه في هذا العالم . وهو خلال ذلك يصرخ " إن الغرباء قد قاموا علي ، والأقوياء طلبوا نفسي ، ولم يسبقوا أن يجعلوا الله أمامهم "( مز 53 ) " ضاع المهرب مني ، وليس من يسأل عن نفسي " ( مز 141 ) . أو قد يفقد خاطئ رجاءه في التوبة ، لأنه لا يقدر علي الوصول إليها ، أو بالأكثر لا يريدها ..! ولكننا نقول لكل واحد من هؤلاء و أمثالهم :

لا تفقد رجاءك . فإن الله يهتم بخلاصك أكثر مما تهتم أنت بل هو الذي يسعي لخلاصك . وهذا هو اسلوب الله منذ البدء بدأ قصة الخلاص منذ أيام أبوينا الأولين آدم وحواء . لقد سقط الاثنان في الخطية ، واستحقا حكم الموت . وكان الخلاص لازماً لهما جداً . ومع ذلك نري أن الله نفسه هو الذي سعي لكي يخلصهما ...

لا آدم طلب الخلاص . ولا حواء ، بل هربا كلاهما من وجه الله ، واختفيا خلف الأشجار ..!
ما كان الهروب وسيلة عمليه تؤدي إلي الخلاص . ولكن الخلاص لم يكن يشغلهما في ذلك الحين . وكل ما كان يشغلهما هو الخوف و الخجل . ما سمعنا قط أن آدم قال لله : يارب اغفر ، يارب سامح . أخطأت إليك ، فامح ذنبي . ولا حواء قالت شيئاً من هذا . ولعل هذه الألفاظ لم تكن في قاموسهما الروحي في ذلك الحين .

.. وفيما هما لا يبحثان عن خلاص نفسيهما ، كان الله يبحث عنهما ..كان ينادي في الجنه " يا آدم ، أين أنت ؟" ( تك 3 : 9 ) . كان الله هو الذي يفتش عن آدم وحواء ، وهو الذي يفتح الموضوع ، ويستدرجهما إلي الكلام ويشرح لهما ما وقعاً فيه من خطأ ، وما يستحقانه من عقوبة . ثم يقدم لهما أول وعد بالخلاص ، وهو أن نسل المرأة سوف يسحق رأس الحية ( تك 3 : 15 ) .
صدقوني ، لو أن الله ترك الإنسان إلي حريته وحده ، أو إلي قدرته وحدة. ما خلص أحد علي الاطلاق

ولكن الله هو الذي يسعى وراء خلاص الكل ..
. كما أعطانا مثلاً عن سعيه وراء الخروف الضال ، ووراء الدرهم المفقود ( لو 15 ) .
كان الخروف سائرً في ضلاله ، لا يدري أين هو ، وربما لا يدري ما هو فيه وفيما هو كذلك كان الراعي الصالح مهتماً بخلاصه . الراعي هو الذي اكتشف ضياع هذا الخروف

، وهو الذي بحث عنه وفتش ، وجرى وراءه في الجبال والوديان إلي أن وجده . لعلها كانت مفاجأة له ، حينما وجد راعيه أمامه ، يأخذه في حنان ، ويحمله علي منكبية فرحاً . حقاً ما أجمل قول الوحي الألهي عن الرب كراع :

" أنا أرعي غنمي وأربضها – يقول السيد الرب – وأطلب الضال ، واسترد المطرود ، وأجبر الكسير ، وأعصب الجريح ..."( حز 34 : 15 ، 16 ) . هو الذي يطلب ويسترد ، وهو الذي يجبر و يعصب . العمل ، وليس عملنا نحن ... أليس هذا أمراً يبعث الرجاء في النفس ؟

وفي مثال الدرهم المفقود ، نري نفس الوضع ، وبأسلوب أعمق :
الدرهم لا يملك حياة ، ولا عقلاً ولا فكراً ولا إرادة ... ولا يدري إلي إين هم قد تدحرج ، وأين استقر به الأمر . وإيضاً لا يعرف كيف يرجع إلي كيس صاحبه أ جيبه ...وقد كان الدرهم المفقود رمزاً إلي كثيرين من نوعه ..

كان رمزاً لكثيرين ممن لا حياة لهم ولا إرادة ... وكان رمزاً أيضاً للضآلة ... فلو أن الأرملة كانت فقدت مائه جنيهاً ذهباً ، لكان من المعقول أن تبحث عنها وتفتش أما مجرد درهم واحد ينال منها كل ذلك الاهتمام ، فهو أمر يدعو إلي التأمل ، ويضع أمامنا عمقاً في الرجاء وهو
إن الله يبحث عن خلاصك ، مهما بدا قدرك ضئيلاً ! لقد ضرب الله لنا مثل الدرهم لنعرف قيمة النفس عنده .

لأنه قد يسأل بعضهم ما قيمة هذا الدرهم الضئيل ، حتي يصير هذا البحث الجاد عنه ، وهذا الفرح وهذه الوليمة عند العثور عليه ؟! . إن كل هذا رمز لاهتمام الرب بالنفس الواحده ، مهما كانت تبدو ضئيلة الشأن . ويعبر المثل عن سعي الله لخلاصنا حتي لو لم نسع نحن ، وفرحة بخلاصنا وفرح الملائكة أيضاً . ألست أنت عند الله أفضل من درهم واحد مفقود ؟!

ثق أن نفسك ثمينة في نظرة الله إليها ، مهما كانت تبدو ضئيلة في نظر الناس ، او في نظرك أنت ... مثل المرأة السامرية التي سعي الرب لخلاصها ، وهي محتقرة في نظر الناس ... ومثل زكا العشار الذي ذهب الرب إلي بيته ، وهو في نظر الكل رجل خاطئ لا يستحق ( لو 19 : 7 ) .

حقاً أن الرب يسعي لخلاصنا ، ويفرح بذلك جداً ...
كما أخذ الخروف الضال ، "وحمله علي منكبيه فرحاً "( لو 15 : 5 ) ، وكما قال إنه " يكون فرح في السماء بخاطئ وحد يتوب "( لو 15 : 7 ) ، وكما فرح برجوع الابن الضال ، وذبح له العجل المسمن ، وكما فرح بالعثور علي الدرهم المفقود ( لو 15 : 23 ، 9 ) . إنه يسعي لخلاصنا أكثر مما نفتش نحن عن ابديتنا . وما أجمل ما قاله الرسول عنه إنه :

يريد أن الجميع يخلصون ، وإلي معرفة الحق يقبلون "( 1 تي 2: 4 ).
وقيل عنه أيضاً إنه لا يشاء موت الخاطئ ، بل أن يرجع ويحيا ( حز 18 : 23 ) . ونقول عنه في آخر كل صلاة من صلوات الأجبية : " الداعي الكل إلي الخلاص من أجل الموعد بالخيرات المنتظرة "...
إن عمل الله ليس فقط أن يفرح بتسبيح السارافيم ، أو بنقاوة الملائكة ن أو بكرازة الرعاه ، أو بجهاد القديسين ، إنما هو يفرح بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلي توبة ( لو 15 : 7 ) . بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلي توبة ( لو 15 : 7 ) .

الأحد، 7 مارس 2010

شجرة جافة تبحث عن ماء الحياة



كانت إمرأة من السامرة ساقها الهوى فى زمن الصبا إلى متاهات الضلال، فى كهوف الخطية عاشت تتقلب كالحشرات فى زواياها، لقد لفت الخطية بذيلها السام الطويل على عنقها، وزينت لها الدنيا بالزهور، وأفعمت هواءها بالعطور، وأوهمتها بأن ليل الشهوة مضيء، ومملوء بالفرح والسرور.

وانفصلت المرأة كحمل جريح عن سرب القطيع، وصارت الوساوس تتقلب فى عقلها، مثلما تتقلب العقارب والأفاعي على جوانب المستنقعات والكهوف، وينجح شيطان الزنى النجس، أن يزوح زهرة ربيعية بأوراق خريفية واضعاً النهار فى صدر الليل!


وتذهب المرأة إلى بئر يعقوب، وأخيلة الأشجار القائمة على جانبي الطريق، تتحرك أمامها كأشباح قد انبثقت من شقوق الأرض لتخيفها! لكن يسوع يتخطى التقاليد البالية ويذهب إلى شجرة جفت أغصانها وتساقطت أوراقها، إلا أنها لازالت تحمل جذور حية وإن كانت مختفية فى ظلمة الأرض!


وهناك على البئر يجلس ابن الإنسان ليستريح من تعب المسير، وهو فى الحقيقة تعب أكثر من المشي وراء الضالين والساقطين، وما هى إلا لحظات حتى وجدت السامرية نفسها أمام وجه مضيء كما لو كان كوكباً قد هبط من السماء، وقد كان لقاءها بالمسيح أول فصل فى رواية الحياة ، حياة الحب الطاهر البريء، الذى لم تختبره فى ست رجال، ومنذ أن تقابلت مع البار، وهى لم ترتدِ سوى ثياب الطهارة ! لقد صارت كزنبقة الحقل بل فاقتها بياضاً وجمالاً !


لا ننكر أنها اضطربت من هيبته، وشعاع الطهارة المنبعث من عينيه، وكيف لا تقلق الطريدة وقد باغتها الصياد! أو الظلمة وقد داهمتها جيوش النور! لكنها ظلت تحدق فى عينيه كأنها تبحث عن شئ، تنظر إليه نظرة غريق نحو نجم لامع فى قبة السماء ! ثم أحنت إلى الأرض رأسها ونظرت إلى طبيعتها الترابية، لأنها لم تحتمل أشعة طهره، التى كانت تنبثق لا من عينيه فقط، بل من كل حواسه ! وبصوت هادئ وديع يضارع نغمة الناي رقة قال لها يسوع: أعطيني لأشرب !


فشعرت تلك الجائعة إلى الحب الطاهر بعاطفة عذبة قوية، تتمايل كالنسيم الهادئ بين ضلوعها، ويستحوذ يسوع على قلب السامرية، وبحكمة سماوية يطلب منها أن تذهب وتأتى بزوجها، وتعترف المرأة بخطيتها وأنه نبى، فشعاع الحب قد اخترق قلبها، فلما تحدثت عن الماضي بصدق تحول ماضيها الخريفي إلى ربيع دائم تفتحت زهوره وفاحت رائحة عبيره.. فتركت عند البئر جرتها وهى فى الحقيقة فقد تركت خطيتها، لتبشر بعريسها السماوي.


لقد كانت ظلاماً فأصبحت الآن تشع نور التوبة والإيمان، وها هى تذهب لتشيع النور فى كل مكان، وتكحل عيون الجالسين فى الظلمة وظلال الموت، فتحول الطريق الذى كان قبلاً مخيفاً، إلى مهرجان كبيرأو قل أعظم عيد، فكان الشجر يصفق لها، والحجر يغنى ابتهاجاً بخلاصهاً!